المغرب وحلّ الدولتين… حين تُزاوج الدبلوماسية بين الواقعية والبصيرة، وتدع المزايدين في “الصف الخلفي”

حنان الفاتحي

في زمن أصبحت فيه القمم العربية تشبه حصص التاريخ في المدارس: طويلة، مملة، ومليئة بجمل محفوظة، يخرج المغرب عن المألوف ويُقرر أن يتحدث لغة مختلفة. لا شعارات رنانة، لا عواطف موسمية، لا بكائيات على فلسطين في نشرات الأخبار، بل شيء نادر في العالم العربي: عمل فعلي، ودبلوماسية واقعية تُربك محترفي الخطابة وتُقلق هواة رفع الأصوات.

من الرباط إلى غزة… عبر طريق ثالث

المملكة المغربية، التي استضافت الثلاثاء الاجتماع الخامس للتحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين، لم تدّعِ اختراع العجلة ولا جاءت لتوزيع الورود في مقبرة العملية السلمية، بل جاءت لتقول: “لدينا خارطة طريق، ولدينا عقل بارد، وضمير حي”. وهذا، في عالم لا يزال يعتقد أن الصراخ هو أعلى أشكال الوطنية، يُعتبر خرقًا للسائد ومشكلة لمن لا يملكون سوى مكبرات الصوت.

وزير الخارجية ناصر بوريطة، الذي بات يتقن فن مخاطبة العالم بلغة الدقة والرصانة، قالها بوضوح: الحل ليس في الارتجال، ولا في الشعارات، بل في دولة فلسطينية حقيقية على حدود 1967. نعم، تلك الحدود التي يذكرها بعضهم فقط عندما يحتاجون إلى تجديد خطاباتهم السياسية، أو حين يسألونهم في برنامج تلفزيوني عن موقفهم من فلسطين.

عاصمة التحالف، لا عاصمة التصريحات

المفارقة أن المغرب، الذي لا يتصدر المشهد بالصراخ، صار اليوم مركزًا هادئًا لصياغة الممكن. تحالف عالمي يُعقد في الرباط، بالشراكة مع هولندا (نعم، هولندا)، وبشعارات أقل بهرجة وأكثر عمقًا: “استدامة الزخم لعملية السلام”. لا أحد هنا يتحدث عن “تحرير الأقصى في أسبوع”، بل عن خطوات عملية، قصص نجاح، وتخطيط طويل الأمد. إنه مؤتمر واقعي في زمن الهلوسة السياسية.

رسالة إلى عشاق التصعيد: نُفضّل الفعل على العويل

بينما يفضل البعض استغلال القضية الفلسطينية كورقة مزايدة أبدية، المغرب يشتغل بصمت. لا يزايد على دماء الفلسطينيين، لا يختزلهم في شعار على حائط، بل يمد لهم يدًا فعلية، سواء عبر لجنة القدس التي يرأسها الملك محمد السادس، أو عبر الدعم الإنساني والميداني الذي لا يظهر في “الهاشتاغات” لكنه يطعم الجائع ويؤوي المشرد.

الرسالة واضحة: من يريد أن يتغذى على الصراع، فليبحث له عن مائدة أخرى. فالمغرب لا يوزع الشعارات، بل يبني ثقة، ويقيم جسورًا بين رام الله وتل أبيب، ويراهن على حلّ لا يُرضي المتطرفين، لكنه يُنقذ المنطقة من نزيف لا ينتهي.

جبهة الممانعة الحقيقية… ليست تلك التي على الفضائيات

كما أشار الأستاذ خالد شيات، المغرب لا يصيح من فوق الأسوار، بل يدخل إلى الساحة. هو اليوم ضمن جبهة الممانعة الفعلية، لا الخطابية. مع دول مثل مصر والأردن ولبنان والسعودية، يحاول أن يُطمئن الفلسطينيين أن العرب، وإن تباعدوا، لم ينسوا. وأن من يُريد أن يدافع عن فلسطين، عليه أن يُنجز لا أن ينشد.

أما بوريطة، فلم يُفوّت فرصة توجيه سهامه إلى “المتطرفين من كل الأطراف”، أولئك الذين يعيشون على صراع الآخرين، يتغذون عليه، ويخافون من نهايته لأنها تُهدد وظائفهم النضالية. سماهم بـ”الخاسرين الحقيقيين”، ولا شك أنهم كذلك. فهم يكرهون كل ما يشبه السلام، لأن السلام يعني كشف عجزهم.

المغرب لا يتكلم كثيرًا… لكنه يتحرك كثيرًا

الاجتماع الذي انعقد في الرباط لم يكن مناسبة بروتوكولية ولا ندوة علاقات عامة، بل كان ورشة لإحياء المسار السلمي، وسط حرب في غزة، ودماء لم تجف بعد. في قلب المأساة، يصر المغرب على أن يزرع الأمل، لا الأوهام. وأن يُحدث الفارق، لا الضجيج.

في النهاية، الدبلوماسية المغربية ليست مشروعا تجميليًا، ولا حركة علاقات عامة. إنها نهج، ومبدأ، واستراتيجية. لا تدّعي العصمة، لكنها تتقن فن المعقول. وفي زمن الصراخ الجماعي، من يتكلم بالعقل يبدو كأنه يهمس، لكنه في الحقيقة يقول ما لا يقدر غيره على فعله.

فهل يسمع من في أذنه “شعار”؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: