في الوقت الذي ترفع فيه الدولة شعارات الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص، تنكشف بين الحين والآخر حقائق تُعيدنا إلى زمن الأسواق السوداء، حيث تُشترى المناصب بالكاش، ويُزايد فيها مثلما يُزايد في قنطار بصل في سوق أسبوعي.
العنوان واضح: “30 مليون لتوظيف أستاذ جامعي”. نعم، ثلاثون مليون سنتيم وليس ثلاثين فكرة نيرة أو ثلاثين بحثًا علميًا. في مملكة التعليم العالي، يبدو أن الشهادة لا تكفي، والكفاءة لا تشفع، والنبوغ لا ينفع… ما لم يكن في الجيب “عربون جدية”، يُدفع تحت الطاولة.
لقد صار الحصول على منصب أستاذ جامعي يشبه دخول نادي مغلق، لا يعترف إلا بالأثرياء الجدد أو المحظوظين بـ”علاقات نافذة”. أما الكفاءات العلمية التي قضت عمرها في المختبرات والمكتبات، فعليها أن تحجز مقعدًا في ركن “الانتظار الأبدي”.
المضحك المبكي في القصة، أن هذه السوق السوداء للمناصب تتدرج حسب السلم الإداري: من السلم 10 بـ10 ملايين، إلى السلم 11 بـ18 مليونًا، وقد تصل “الرفاهية الأكاديمية” إلى 30 مليون سنتيم. كل شيء واضح: الترقية حسب القدرة على الدفع، لا حسب القدرة على الإقناع!
وإذا كانت الرشوة والوساطة قد غزت ميادين شتى، من الرخص إلى الصفقات، فإن دخولها إلى الجامعات يُعدّ إهانة جماعية للعقل المغربي، وتجريفًا صريحًا لأخلاق البحث العلمي. كيف ننتظر من أستاذ دَفع مالًا ليُوظّف، أن يُكوّن أجيالًا حرة التفكير؟ بل، كيف نطلب منه أن يُقاوم الفساد إذا كان أول عهده بالوظيفة هو “شراء الكرسي”؟
الأدهى أن هذه الظواهر ليست حالات فردية معزولة، بل شبكات منظمة، تُنسج بعناية، وتُدار أحيانًا من داخل المؤسسات نفسها، بمباركة “أطر” تدرك أن ثمن الصمت أغلى من أجر التعليم.
فيا وزير التعليم العالي، ويا من يتغنى بـ”جامعات الذكاء الاصطناعي”، متى ستواجهون ذكاء الفساد الطبيعي؟ ومتى ستحاربون هذا النموذج المُهين لأستاذ يُعامل كسلعة، ويُنتقى لا على أساس الفكر، بل على أساس الفاتورة؟
كفانا خداعًا. إن الجامعة ليست دكانًا، والتعليم ليس سلعًا بالتقسيط، والكرسي الجامعي ليس عُلبة سردين تُعرض في سوق بائع الوظائف.
وإلى حين إلغاء هذه “الضريبة الخفية” على الكفاءة، سنظل ننتج أساتذة لا يدرّسون إلا الخنوع، ويخرّجون أجيالًا تحفظ جيدًا قاعدة واحدة: “ادفع… تُوظف”.