يبدو أن فرنسا قرّرت أخيرًا أن تترجم خيبتها السياسية إلى إجراءات إدارية، وأن تصبّ غضبها الدبلوماسي في دفاتر “الإقامة المؤقتة” وملفات الترحيل. والضحية كالعادة: الجالية الجزائرية، التي تتحول في كل أزمة بين باريس والجزائر إلى كبش فداء بربطة عنق فرنسية.
المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية، السيدة صوفي بريماس، خرجت الخميس بوجه عبوس وعبارات لا تطمئن حتى طائر مهاجر، لتعلن: “العلاقات مع الجزائر لا تتحسن، بل تسوء”. ثم أردفت بما يشبه التهديد المبطن: “نعكف حاليًا على إجراءات تخص جزءًا من الجالية الجزائرية”. يا له من غموض مشوّق يُبشّر بموسم جديد من مسلسل التوتر الممل بين البلدين!
ماكرون ومزامير التهديد
الرئيس إيمانويل ماكرون يبدو وكأنه عثر أخيرًا على شماعة ممتازة لتعليق أزماته الداخلية. فإذا كان التضخم لا ينخفض، والنقابات لا تسكت، فلا بأس من تذكير “الجالية الجزائرية” بأنها ضيف مرحّب به… حتى إشعار آخر. وهكذا، صار ماكرون، ووزيره الأول، ومعهم وزير الخارجية، يتبادلون الحديث عن “إجراءات مهمة” بشأن هذه الجالية، وكأنها كرة بين أرجل لاعبي سياسة فقدوا شهيتهم للتفاوض.
لا أحد يعلم حتى اللحظة ما هي هذه “الإجراءات” بالضبط. هل هي ترحيلات بالجملة؟ هل هي مراجعة لاتفاق الهجرة القديم الذي يعود إلى عصر الديناصورات البومديينيّة؟ أم هي مجرد حملة تخويف شعبوية لترضية تيارات اليمين التي تُحرّك الرأي العام في فرنسا كما تحرّك الرياح أوراق الخريف؟
من دفتر التاريخ إلى سجل الترحيل
الجالية الجزائرية في فرنسا ليست أقلية صغيرة تسكن في الزوايا. إنها نسيج معقّد، فيه من يحمل الجنسية الفرنسية، ومن ينتظرها، ومن لا تعنيه أصلًا، وفيه الطالب والعامل والطبيب والسائق والفنان… بل حتى الناخب والمؤثر ومرشح البلديات. الحديث عن هذه الجالية كما لو كانت كتلة قابلة للحذف بجرة قلم هو اختزال فجّ لا يليق بدولة تدّعي أنها حامية حقوق الإنسان.
لكن ما يثير السخرية أكثر من التهديدات الفرنسية، هو الصمت الجزائري الرسمي. فمنذ إعلان باريس عن نيتها “تضييق الخناق”، لم نسمع من قصر المرادية إلا طنين مكيفات الهواء. لا بل إن السلطات الجزائرية مشغولة هذه الأيام بإعادة تدوير وجوه عمرها السياسي أكبر من عمر الجمهورية نفسها، فهل لها وقت للجالية في المهجر؟
غرام تحت التهديد
الملف لا يخلو من مفارقة: باريس التي تعرف أن الجزائر تمسك ببعض خيوط الغاز والإرهاب والهجرة، تهدد بـ”تضييق الامتيازات”، بينما الجزائر التي تعرف أن اقتصادها يعاني من هشاشة مزمنة، تلوّح بدبلوماسية الصمت والغضب البارد. أما الجالية الجزائرية، فتتفرج من شرفات باريس وليون ومرسيليا على فصل جديد من مسرح العبث السياسي بين بلدين لا يريدان أن يتصالحا ولا أن ينفصلا.
فالمسألة تتجاوز أزمات طارئة هنا وهناك. إنها علاقة حبّ سامة، لا يعرف فيها الطرفان كيف يعيشان سويًّا، ولا كيف يفترقان.
في انتظار الإجراء التالي…
وهكذا تستمر اللعبة القديمة: فرنسا تلوّح بالترحيل، الجزائر تلوّح بالصمت، الجالية تلوّح ببطاقات الإقامة، والسياسيون يتلاعبون بالخيوط كأنها لعبة ماريونيت. أما الشعوب، فتدفع الثمن، كما هو معتاد، في شكل ضغط، وإهانة، وحرمان من الحقوق، وكل ذلك باسم “السيادة” و”الكرامة الوطنية” التي لم تعد تُقاس إلا بعدد المطرودين من مطار شارل ديغول.