من كان يظن أن البطالة ستتحول يوماً إلى نوع من الرفاهية الزمنية فقد أصاب، ومن كان يراها حقًا اجتماعيًا مقدسًا، فقد أخطأ العنوان… نحن في بلجيكا، حيث الحكومة قررت، بمنتهى الجرأة، أن تُمهّد الطريق نحو «السعادة عبر العمل»… حتى لو كان ذلك بإلغاء بدائلها.
مجلس الدولة، الجهة العليا التي يفترض أن تعتني بحماية الحقوق والحريات، قرر أن يُمارس فضيلة “التفهم الحكومي”، واعتبر أن تقليص مدة التعويضات عن البطالة إلى عامين فقط لا يُشكّل مشكلة دستورية تذكر. فهدف الحكومة نبيل – تقول الوثيقة – وهو “رفع معدل التوظيف وتحقيق وفورات مالية”. وما دامت النوايا حسنة، فلا بأس أن تُسحب السجادة من تحت أقدام العاطلين!
الدولة تحترم حقك… في أن تكون فقيرًا بكرامة
في رأي مجلس الدولة، لا يزال المواطن البلجيكي محميًا. صحيح أنه قد يفقد تعويضاته، لكن الدولة لم تنسه: هناك دائمًا باب “المعونة الاجتماعية” مفتوح، وبجوارها يوجد مركز الخدمات الاجتماعية CPAS، جاهز لاحتضان الفقراء “الحديثين” وتقديم ما تبقى من كرامة في كيس بلاستيكي.
الفقه الدستوري الجديد: النوايا تبرّر التعديلات
الفقه الجديد الذي اجتهد به مجلس الدولة مفاده: طالما هناك “أهداف شرعية”، يمكن تقليص الحقوق. هذه العبارة العبقرية تفتح الباب لتأويلات لا نهائية. فربما غدًا يصبح من “الشرعي” تقليص الأجور، أو تقليص ساعات النوم، طالما أن الغاية هي “رفع الإنتاجية” أو “التوفير في ميزانية القهوة الوزارية”.
النقابات غاضبة… لكن من يستمع؟
النقابة الاشتراكية FGTB، حاملة لواء الحقوق الاجتماعية منذ الحرب العالمية الثانية، تذكّر بمادة في الدستور تقول إن لكل فرد الحق في “عيش كريم”. وتُضيف، محقة هذه المرة، أن مناقشة مصير مئات الآلاف من العاطلين جرت بسرعة قياسية، كأن الأمر لا يستحق أكثر من استراحة شاي في مكاتب مجلس الدولة.
ثم هناك اعتراضهم المحوري: مجلس الدولة ليس المكان المناسب لفحص مدى دستورية هذا “الإبداع التشريعي”، بل المحكمة الدستورية. ولكن من يهتم؟! المهم أن الحكومة حصلت على “صك براءة مبدئي” لتسويق مشروعها دون تأنيب ضمير مؤسساتي.
دولة تُعاقب البطالة بدل أن تعالجها
المفارقة أن الحكومة اختارت معالجة البطالة لا عبر خلق فرص الشغل، بل عبر تقليص تعويضات العاطلين. إنه منطق اقتصادي مستوحى من شريعة الأدغال: من لا يعمل لا يأكل، ومن لا يجد عملاً فعليه أن “يتحمل مسؤوليته”… أو يتناول الكرامة على الإفطار.
في بلجيكا اليوم، البطالة لم تعد حالة اجتماعية، بل جريمة غير منصوص عليها في القانون، تُعاقب بعدم التعويض. من لم ينجح في لعبة السوق، عليه أن يُراجع نفسه، لا أن يُطالب الدولة بالدعم. في النهاية، العمل عبادة، وإن لم يكن موجودًا فلتكن البطالة عقوبة.
«عيش بكرامة»… لكن بسرعة
يبدو أن البلجيكيين سيعيشون كرماء… ولكن في حدود عامين فقط. بعد ذلك، إما أن يجدوا عملاً، أو يودعوا كرامتهم لدى قسم الخدمات الاجتماعية. الدولة قررت أن الكسل لم يعد فضيلة مدنية، بل نزوة مكلفة يجب تقنينها.
المشروع باختصار ليس مجرد إصلاح لنظام البطالة، بل إعادة تعريف للعدالة الاجتماعية: من أراد الحق في حياة كريمة، فليكن سريعًا في العثور على وظيفة، أو على الأقل، سريعًا في التأقلم مع وضع الفقير «الشرعي».