الجزائر… حيث الدولة تدور حول نفسها ثم تعلن الحرب على البوصلة
في الجزائر، يبدو أن الدولة تمرُّ بحالة دوخة استراتيجية مزمنة. ليست دوخة عابرة نتيجة تغيّر الضغط الجوي أو نقص في المغنيزيوم، بل هي دوخة وجودية، تحوّلت إلى نمط حُكم وتخطيط يومي، بل أصبحت إحدى ركائز الدستور غير المكتوب.
الدولة في مرحلة “التكوُّن”، ولكن لا كما تتكوَّن الأمم، بل كما يتكوّن الضباب على زجاجٍ لم يُمسح منذ سنوات. هناك شيء يُطبخ، لكن الطباخين من بقايا مطاعم الستينات، والحساء فاسد قبل أن يُوضع على النار.
حزب الدولة يتقلص… والجنرالات يتضخمون
ذات يوم، كان حزب جبهة التحرير الوطني هو الدولة، يمشي على قدمين وينطق باسم السيادة. اليوم، لا يكاد يصلح ليكون فرقة موسيقية في مهرجان بلدي. النخبة السياسية، بما تبقى من نخوتها، فرت من الساحة، وخلت الدولة لجنرالات الجيل الثاني، الذين لا يعرفون سوى “كن فيكون”، لكن مع استثناء: “يكون الخراب فقط”.
الحراك: شعبٌ يصرخ، ودولةٌ تصفر
الحراك الشعبي كان صرخة صافية في وجه الدولة المتسلطة، لكنه تحوّل إلى صدى يتردد في فراغ المؤسسات. الحراك اليوم ليس في الساحات، بل في شرايين السياسة: عزوف انتخابي، فقدان الثقة، وانكماش مزمن في الأمل. الدولة ترد على هذا كله بتسريب خطابات وتصريحات تنتمي لعصر المذياع، وبتكريس نظام يرفض أن ينظر في المرآة خوفًا من أن يرى صورته الحقيقية: مهزوزة، مترنحة، بلا مشروع.
فرنسا؟ الإمارات؟ لا تهم، ما دام المغرب هو الهاجس!
المثير للدهشة – ولا شيء يدهشنا بعد – أن الدولة الجزائرية لا تتفاعل مع فرنسا أو الإمارات إلا وفق زاوية واحدة: “هل هذا يُزعج المغرب؟” فإن لم يكن، فهي أزمة مفتعلة لا تستحق التعب. وإن كان، فمرحى… نُشعل النار ونرقص حولها!
الرئيس تبون، المسكين، حاول أن يفتح “صفحات بيضاء” مع باريس وأبو ظبي، لكن الحرس القديم لديه طابعة لا تطبع إلا بالأحمر القاني. النتيجة؟ عادت العلاقات مع فرنسا إلى التجميد، ومع الإمارات إلى التراشق الإعلامي… بسبب تصريح لأكاديمي في قناة ليست حتى رسمية! دولة تُدير سياستها الخارجية بمزاج معلّق على تويتر.
موريتانيا، مصر، وروسيا: الجزائر تُجيد خسارة الأصدقاء
موريتانيا، التي كانت تُجامل الجزائر بدبلوماسية الصحراء، اختارت الحياد الذكي، وبدأت تُمضي عقود الشراكة مع المغرب في الصيد والزراعة والتجارة. مصر، الدولة الثقيلة، اختارت تجاهل مناورات الجزائر، وروسيا – الحليف المفترض – احتفلت بالنصر على النازية دون أن تُتعب نفسها بدعوة الرئيس تبون أو رئيس الأركان شنقريحة، وكأنها تقول: “أنتم لم تنتصروا حتى على أنفسكم بعد.”
العزلة… الإنجاز الوحيد الذي لا ينازعها فيه أحد
العزلة الدولية للجزائر لم تُفرض عليها، بل هي من اختارتها بإرادتها الحرة الكاملة. هي الدولة الوحيدة التي تطرد السفراء ثم تتساءل: “لماذا لا يزورنا أحد؟” تحولت الدولة إلى ماكينة لإنتاج التوتر، في الداخل والخارج، بقيادة حرس قديم لا يعيش إلا في أجواء المؤامرة، ولا ينام إلا إذا اشتعلت أزمة جديدة.
الخلاصة: الدولة كائن حي… لكنه مصاب بالاختناق
الجزائر، بعمقها وتاريخها وشعبها، تستحق دولة تُشبهها. لكن ما يحدث اليوم هو أن الدولة تُدار من طرف من يخافون المستقبل، ويريدون البقاء في ماضي المجد الزائف، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الجنرالات.
غير أن الكائن الحي لا يصبر طويلًا على الاختناق. والتغيير قادم… إما بقوة الدفع الشعبي، أو بضغط الأوكسجين الخارجي.
نعم، نتوقع أنباء سارة من الجزائر، ليس لأن الحرس القديم يريد ذلك، بل لأن التاريخ لا ينتظر أحدًا… حتى لو كان يرتدي بزّة عسكرية.