فرنسا تحتج… على العنصرية التي لا تعترف بها

بوشعيب البازي

في بلاد الأنوار، حيث يزدهر مبدأ “الحرية والمساواة والأخوة”، خرج آلاف الفرنسيين ليطالبوا… بشيء من تلك الأخوة تحديدًا. والسبب؟ شاب مالي يُدعى أبي بكر سيسيه قُتل بوحشية داخل مسجد، فيما وُجهت أصابع الاتهام لا فقط إلى القاتل، بل أيضًا إلى مناخ سياسي خانق بالكراهية، اختنقت فيه الكلمات قبل أن تختنق الأرواح.

المشهد في ساحة الباستيل كان لافتًا: لافتات تندد بـ”الإسلاموفوبيا”، هتافات ترفض “الكراهية المقننة”، وأعلام فرنسية تتجاور مع أعلام فلسطينية في عرض نادر لما تبقى من التضامن في الجمهورية الخامسة. غير أن وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو بدا وكأنه يشاهد فيلما آخر، من النوع الذي لا تُعرض فيه كلمة “إسلاموفوبيا”، لأنها، حسب رأيه، من اختراع “الإخوان المسلمين”. وكأن المعجم الفرنسي بات يخضع لمراقبة أمنية مشددة: الكلمة التي لا تروق للوزارة تُمنع، أما الظاهرة التي تُرهب المواطنين… فلا بأس إن تطورت قليلًا.

يُذكر أن السيد ريتايو لم ينكر وجود ظاهرة معاداة المسلمين، لكنه يفضّل مصطلحات أكثر تهذيبًا، ربما من نوع “تفاوت في الود تجاه المسلمين” أو “سوء تفاهم ثقافي عابر”، طالما أن كلمة “إسلاموفوبيا” تزعجه أيديولوجيًا. فالمشكلة، كما يبدو، ليست في جريمة طعن مروعة ارتُكبت داخل مسجد، بل في مفردة لغوية قد تُثير الحساسية في قلوب بعض رجال الأمن الداخلي.

مئات المحتجين هتفوا “نحن هنا حتى وإن لم يشأ ريتايو”، في دلالة على تحدٍ مدني لسياسات التهميش. ومما زاد من رمزية التظاهرة أن من قادها لم يكونوا فقط مسلمين، بل مواطنون من خلفيات متعددة أدركوا أن المشكلة لا تقتصر على طائفة أو ديانة، بل تطال روح الجمهورية نفسها.

وفي مشهد نادر من الإجماع، دافع رئيس الوزراء فرنسوا بايرو عن استخدام مصطلح “الإسلاموفوبيا”، في محاولة لتصحيح الخلل في القاموس السياسي الرسمي، بينما اكتفى ريتايو بمواصلة إنكار المفردة، وربما نَظَر إلى المتظاهرين كأنهم جزء من مؤامرة نحوية لفرض الكلمات المحظورة على الوزارة.

وما زاد الطين بلّة أن القاتل – الذي طعن سيسيه عشرات المرات – وثّق جريمته في مقطع فيديو صادم، يسب فيه الذات الإلهية، ثم أرسل المقطع وكأنه فيديو دعائي لحملة انتخابية في جهنم. تم تداول الفيديو، ثم حذفه، لكن أثره بقي شاهدًا على أن خطاب الكراهية لم يعد مجازيًا، بل أصبح قابلاً للتصوير والبث.

في ظل هذه المعطيات، لم يعد النقاش في فرنسا مجرد جدل حول الحريات، بل معركة حول من يملك الحق في تعريف الواقع: هل الإسلاموفوبيا موجودة فعلًا؟ أم أنها، كما يرى بعض الساسة، مجرد خيال شرقي يتسرب من كتب الفقه إلى لوائح الاتهام؟

المضحك – والمبكي – أن وزارة الداخلية نفسها سجلت ارتفاعًا بنسبة 72% في الاعتداءات المعادية للمسلمين في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري. لكن يبدو أن الأرقام لا تُقنع من قرر أن الظواهر الاجتماعية يجب أن تُمرّر عبر الفلتر الأيديولوجي أولاً.

فرنسا اليوم تقف على مفترق طرق بين جمهوريتها التي تفتخر بها وخطاب سياسي يقودها إلى ضيق الأفق. فهل تستمع الحكومة إلى الشارع؟ أم تواصل حوارها الأحادي مع المرآة؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: