بعد سنوات من التردد الدبلوماسي الفرنسي الذي يشبه رقص السلمى على رؤوس الشوك، قررت باريس أخيراً أن تقرأ الخريطة كما هي، لا كما تُرسم في كواليس الجزائر. وها هو السيد ريمي ريو، المدير العام للوكالة الفرنسية للتنمية، يشد الرحال نحو العيون والداخلة، لا بحثاً عن الشمس والكسكس، بل لترجمة إعلان رسمي فرنسي: الصحراء مغربية، والسلام.
هذه الزيارة، التي قيل عنها إنها “تاريخية”، يمكن تلخيصها ببساطة في جملة واحدة: فرنسا قررت أن تتوقف عن لعب دور المتفرج الحائر، وبدأت تشتغل على الواقع بدل البلاغات الإنشائية. فبعد توقيع الإعلان المشترك بين الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أكتوبر الماضي، جاءت زيارة ريو كأول اختبار عملي: هل فرنسا جادة في دعم الحكم الذاتي المغربي أم أن تصريحاتها تصلح فقط لندوات باريسية على الشانزليزيه؟
السيد ريو لم يأتِ خالي الوفاض. لا، الرجل جاء ومعه دفتر شيكات، وإرادة سياسية واضحة، واستراتيجية تنموية تطمح لتحويل الأقاليم الجنوبية إلى نقطة ارتكاز فرنكوفونية جديدة في غرب أفريقيا. كيف لا، وهو نفسه من قال إن الصحراء المغربية “جسر استراتيجي نحو العمق الأفريقي”. يعني بكلمات أخرى: نقطة عبور لا يمكن القفز فوقها حتى لو كنت تملك كل طائرات الخطوط الجوية الجزائرية.
فرنسا، التي طالما رقصت بين الحبال في قضية الصحراء، يبدو أنها قررت أخيراً أن تخلع الحذاء المزدوج، وتنتعل حذاءً مغربياً مريحاً بخياطة الحكم الذاتي. ربما اكتشفت باريس أن السياسة الخارجية لا تُبنى على مجاملات جارٍ متعب، يصرّ على تمويل دويلة وهمية في تندوف، بينما يئن اقتصاده تحت وطأة الأنبوب الفارغ والانقسام الشعبي المزمن.
منذ إعلان ماكرون دعمه الرسمي لمقترح الحكم الذاتي، والجزائر تعيش حالة من الذهول الاستراتيجي. كيف لباريس، “الأم الروحية” لحركات ما بعد الاستعمار، أن تنقلب على “رفاق النضال” في الرابوني؟ الجواب بسيط: لأن الواقع أقوى من الرواية، والمغرب أقوى من البروباغندا.
وإذا كانت الوكالة الفرنسية للتنمية تخطط لتمويل مشاريع في العيون والداخلة، فهذا ليس من باب الصدقة، بل لأن الأقاليم الجنوبية صارت مجالاً حيوياً للاستثمار، وعُقدة وصل بين المغرب وأفريقيا، ومركزاً للمبادرات الملكية الطموحة التي أحرجت الجميع، من دكار إلى باريس. فالمغرب اليوم لا ينتظر المساعدات، بل يعرض الشراكة… من موقع قوة.
أما جبهة البوليساريو، فربما تحتاج الآن إلى إعادة تقييم “موقعها الجغرافي”، بعد أن انكمشت خريطتها إلى حدود مخيمات بلا ماء ولا أمل. ولعلّها تدرك، ولو متأخرة، أن الاعتماد على بيانات وزارة الخارجية الجزائرية يشبه الاعتماد على خرائط “غوغل إيرث” في الصحراء: قد تعطيك صورة جميلة، لكنها لا تسقي الزرع، ولا تبني طريقاً، ولا تؤسس مدينة مثل الداخلة.
الرسالة وصلت. والمغرب، بهدوء وثقة، يربح المعركة ميدانياً ودبلوماسياً وتنموياً. والفرنسيون، بعد طول دوران، قرروا الانخراط في المشروع الواقعي عوض التحليق في سماء شعارات لم تعد تقنع حتى أصحابها.
نشكر السيد ريو على زيارته، ونقترح عليه مستقبلاً أن يأخذ معه بعض السادة في البرلمان الأوروبي، ممن لا زالوا يعتقدون أن “الصحراء الغربية” دولة، وأن “البوليساريو” حركة تحرر وليست جمعية دراجات نارية. فربما حين يرون الطرق والموانئ والمشاريع والمواطنين، يدركون أن الحقيقة على الأرض… وليست في أرشيف الحرب الباردة.