الصحراء المغربية… حين تُقايِض الجزائر الجغرافيا بالوهم وتخسرهما معاً

بقلم: بوشعيب البازي

في عالم الجيوستراتيجيا، لا مكان للنوستالجيا الثورية، ولا مجال للرهانات العاطفية على خُطب سبعينيّة تنتمي لزمن الحرب الباردة. لكن يبدو أن الجزائر و”البوليساريو” قررتا، بكل جرأة غير مفهومة، شنّ معركة خاسرة ضدّ الجغرافيا والتاريخ والمنطق، تحت راية شعار يليق بكتب الفنتازيا: “دولة في الخيال، وجيش في السراب، وشعب على الورق”.

فبعد نصف قرن من العناد السياسي، والأموال المصروفة بسخاء جنوني على كيان هجين لا تملك حتى الأمم المتحدة خارطة له، تجد الجزائر نفسها اليوم في مواجهة الحقيقة المرّة: المغرب لم ينتظر؛ لقد اشتغل، مدّ الطرق، بنى الموانئ، ربط الشمال بالجنوب، وأعاد رسم خريطة الاستثمارات الدولية انطلاقاً من العيون والداخلة وليس من خطابات تندوف. أما البوليساريو، فباتت تُدار مثل شركة خاسرة لا تنتج إلا البلاغات العسكرية اليومية التي لا يقرأها أحد سوى الناطق باسمها.

جيوستراتيجياً، ما حققه المغرب في الصحراء ليس فقط تأكيداً للسيادة، بل درساً إقليمياً في حسن تدبير النزاع طويل الأمد. فبينما كانت الجزائر تراهن على العزلة الدبلوماسية للرباط، فإذا بها تستفيق على أكثر من أربعين قنصلية أجنبية فتحت أبوابها في مدن الصحراء، وعلى تحوّل المغرب إلى فاعل محوري في مبادرات أنبوب الغاز، والممرات التجارية القارية، والربط البحري بين أفريقيا وأوروبا.

حتى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبلدان أمريكا اللاتينية التي طالما كانت ملعباً لدبلوماسية “الكاش والكوفيار” الجزائرية، بدأت تنسحب تباعاً من سردية “تقرير المصير” لصالح مقترح الحكم الذاتي المغربي، الذي بات بمثابة “الحد الأدنى الواقعي” لأي حل مقبول دولياً.

أما على المستوى الإقليمي، فإن الجزائر، بعد كل هذه السنوات من الاستثمار السياسي في البوليساريو، وجدت نفسها معزولة، تصرخ في صحراء دبلوماسية من صنعها، وتواجه جيراناً يتحدثون لغة المصالح المشتركة بينما لا تزال هي تحنّ إلى لغة السبعينات: “الشعوب المكافحة”، و”النضال من أجل الحرية”، و”الأنظمة العميلة”. والنتيجة؟ انسحاب مالي والنيجر وبوركينا فاسو من الحاضنة الإقليمية التقليدية، وتقرّبها من المغرب بنَفَس براغماتي لم يعد يطيق سماع قصص “تقرير المصير” التي لا تشتري بها حبّة عدس في سوق السياسة الدولية.

أما البوليساريو نفسها، فقد تحولت إلى ما يشبه “دولة افتراضية”، موجودة فقط على الورق وفي اجتماعات مغلقة لا يحضرها إلا هواة الفشل الدبلوماسي. لم تعد تملك شيئاً سوى أرشيف صور تعود إلى القرن الماضي، ومخيمات تُدار وفق منطق المعونات، حيث “القيادة التاريخية” تشرب القهوة المرة على نخب انتصارات لا تحدث إلا على الورق، بينما الشباب يعيش على أمل “اللجوء إلى أوروبا” وليس “العودة إلى الوطن”.

الواقع أن الجزائر راهنت على ملف الصحراء لتُوازن نفوذ المغرب في أفريقيا، فانتهى بها المطاف إلى استنزاف سياسي واقتصادي ودبلوماسي مكلف. وتحوّلت هذه القضية من “ورقة ضغط” إلى “نقطة ضعف”. صار ملف الصحراء عبئاً، و”الجبهة” عبئاً، والخطاب الرسمي عبئاً… والميزانية التي تذهب سنوياً لتمويل هذا العبث أكبر عبء على الإطلاق.

في المقابل، يتقدم المغرب بثبات في مشروعه التنموي في الصحراء، ويواصل تعزيزه لروابطه مع شركاء استراتيجيين، وينافس على مراكز النفوذ في غرب أفريقيا والساحل، ويطرح نفسه وسيطاً في أزمات إقليمية معقدة. ولعل المفارقة المؤلمة أن الجزائر التي كانت تطمح لقيادة أفريقيا، صارت تقف عند بوابة الاتحاد الأفريقي تشتكي من “التحيّز” و”المؤامرة الإمبريالية”، في حين أن العالم قرر ببساطة الانتقال إلى صفحة جديدة… عنوانها: الصحراء مغربية، فماذا بعد؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: