عندما تُفشل السياسة ما أمكن للدبلوماسية إصلاحه، وعندما تغلق الأجواء وتُسحب السفراء، فلا مفر من استدعاء “الخطة ب”: شيخٌ جليل، عباءة صوف، وقافلة مريدين… على طائرة رئاسية.
نعم، لقد فعلتها الجزائر وأرسلت الخليفة العام للطريقة التيجانية، الشيخ علي بلعرابي، في زيارة “روحية”، لكنها محمولة على أجنحة السياسة، إلى بوركينا فاسو، في جولة دامت أسبوعًا وبدت كأنها تجمع بين “الذكر الجماعي” و”المصالحة الإقليمية”. كل ذلك تحت شعار: إذا ضاعت لغة المصالح، فلنجرب لغة المديح النبوي.
الشيخ بلعرابي، وهو شخصية تحظى بهالة تجمع بين الورع والمكانة الشعبية، نزل ضيفًا رسميًا لا يُشبه باقي الضيوف. لقاءات مع كبار المسؤولين، حفاوة رئاسية، وهتافات مريدين على أنغام الدف، في وقت تغلي فيه العلاقات بين الجزائر ودول الساحل كما يغلي القدر المهجور على نار مفتوحة.
لكن خلف الإنشاد والتسابيح، كانت الرسائل تتطاير كالحمم: الجزائر، التي أسقطت مؤخرًا طائرة مسيّرة تابعة للجيش المالي، وجدت نفسها أمام علاقات دبلوماسية مشتعلة، ومجال جوي مغلق، وسفراء عائدين بحقائبهم. وعندما استعصت التهدئة على وزراء الخارجية، جاء دور “الصوف الناعم”.
بلعرابي، الذي التقى مستشار الرئيس البوركينابي، لم ينسَ أن يُلبس خطابه حُلّة التصوف المعتادة: “وحدة الكلمة، وتغليب مصلحة الوطن، وامتحانات تمر بها الأمم”. لكن ما بين الكلمات، فهم الجميع أن الشيخ لا يتحدث فقط إلى المريدين، بل يقرأ على المنطقة “رُقية دبلوماسية”.
وإن كانت الرسالة غير مكتوبة، فالطائرة الرئاسية تكفي لتفسير النوايا. فهي ليست وسيلة تنقّل فحسب، بل إعلان غير صامت أن “الشيخ مبعوث فوق العادة… وتحت الطاولة”. والشيء بالشيء يُذكر: هذه هي المرة الأولى التي تطير فيها الطريقة بطائرة رئاسية، بدلًا من قافلة سيارات رباعية الدفع تتقدمها الزغاريد.
وبينما كان الخليفة يخطب في واغادوغو عن التعايش الروحي، كانت وسائل الإعلام تتداول حديثًا عن “دبلوماسية الطريقة” التي باتت أكثر فاعلية من خطابات وزراء الخارجية. بل وذهب بعض المحللين إلى أن الشيخ قد يصبح أقرب إلى “هنري كيسنجر الصوفي”، يطوف على عواصم الساحل حافي القلب، ليعيد للعلاقات روحها بعد أن أفرغتها الجغرافيا والدرون من معناها.
فالطريقة التيجانية، التي تأسست في قرى الجنوب الجزائري قبل أن تنطلق كنسمة روح نحو غرب إفريقيا، لم تكن يومًا بعيدة عن السياسة. بل إن البعض يقول إنها أقدم حزب غير مُعلن في المنطقة، له أتباع أكثر من الناخبين، وامتداد أوسع من البعثات الدبلوماسية. ومتى فشلت لغة المصالح، تسللت لغة الأولياء.
أما السلطات الجزائرية، فيبدو أنها قررت – بعد طول تجاهل – أن ما لا تحققه القنوات التقليدية، يمكن أن تصنعه المواعظ. فكلما ضاقت السبل، توسعت العباءات، وتكاثرت حلقات الذكر في خدمة “الحوار البنّاء”.
وإذا كان الساسة في المنطقة يشكون من غياب الثقة، فإن الشيخ بلعرابي يتقدم بثقة كاملة. فالناس لا يثقون كثيرًا في التصريحات الرسمية، لكنهم يُصدقون “كرامة” تُروى في مقهى شعبي عن شيخ أنقذ قرية من الجفاف بمجرد نظرة.
في النهاية، إن عجزت الجيوش، وانهارت التحالفات، فربما يكون الحل في دف صوفي، ودعاء جماعي على نية “تفريج الكرب”. ومن يدري؟ قد تعود الطائرات إلى أجوائها، والسفراء إلى سفاراتهم، حين تقرر الزاوية أن تقول كلمتها.
وإن لم تنجح المهمة، فالمريدون على الأقل عادوا برصيد روحي مرتفع… وركبوا الطائرة الرئاسية