ليس من عادة الدول الواثقة أن ترد على الهذيان، ولا من شيم الدول الرصينة أن تنجرّ إلى معارك كلامية من عيار “ردّ عليّ إن كنت رجلاً”. ولكن حين يتجاوز الهذر الجزائري حدوده، ويتحول بيان رسمي إلى استعراض مسرحي بائس، فإن الصمت يصبح تواطؤاً، والصبر يتحول إلى مشاركة في العبث.
الجزائر، في نوبة غضب مزمنة، قررت هذه المرة أن تصب جام سخطها على دولة الإمارات العربية المتحدة، لا لذنب اقترفته أبوظبي سوى أنها اختارت ـ كأي دولة ذات سيادة ـ أن تفتح قنصلية في مدينة العيون المغربية. قرار، سيادي بامتياز، لكنه كان كفيلاً بأن يشعل حناجر محللي البلاط الجزائري، ويثير “لغطاً وطنياً” يشبه العاصفة في كوب شاي بائت.
منذ تلك اللحظة، لم تهدأ طبول الحرب الإعلامية. الإمارات أصبحت الشماعة الجديدة التي يُعلّق عليها كل إخفاق، من أزمات الحليب، إلى أزمات الشرعية. أما المغرب، فصار ـ في الرواية الجزائرية ـ مخلب قط إماراتي، في مؤامرة كونية هدفها الوحيد: إزعاج تبون قبل النوم.
وهنا مربط الفرس. فحين تصبح تصريحات صحفية مادة للتحقيقات الرسمية، ويُعدّ تقرير تلفزيوني مهدداً للسيادة الوطنية، فإننا لا نتحدث عن دولة، بل عن دراما سياسية مفتوحة على العبث.
ولأن الجزائريين يفاخرون بالمليون ونصف المليون شهيد كما يفاخر الطفل بدرجته في الإملاء، فلا بد من التذكير أن الأرقام، حين تتحول إلى أداة مزايدة، تفقد معناها. فالشهادة في عرف الشعوب الحية ليست دعاية، بل أمانة. وليست أرشيفاً للندب، بل حافزاً للبناء.
ومن ماتوا في سبيل الوطن، لو عادوا اليوم، لربما سألوا: هل هذا ما استشهدنا من أجله؟ من أجل بلد يحصي شهداءه كلما قلّت شرعيته؟ ويستحضر المجد كلما غابت الكهرباء؟
ثم، مهلاً… من قال إن الجزائر دعمت الإمارات يوماً؟ من قرأ الفاتحة على مشروع الاتحاد؟ من اعترف بنا في المهد؟ إنها المغرب، يا سادة. المغرب، الذي كنتم منه وكان منكم، قبل أن تفصل بينكم حدود رسمها الاستعمار، وزرع فيكم خصومة ما زالت تثمر مرارة حتى اليوم.
والحق يُقال، لسنا بحاجة لمن يذكرنا بمن نحن. لسنا في سباق بطولات خطابية. نحن في سباق تنمية. في بناء مدن، لا أوهام. في إطلاق مسبارات، لا شتائم. الإمارات لا ترد لأنها تبحث عن مجد، بل لأنها تملك ما تخسره: منجز، حضور، وكرامة دبلوماسية.
أما الجزائر، التي تحب أن تتقمص دور الضحية بينما تموّل الانفصاليين وتحرّض على الجيران، فربما حان الوقت أن تلتفت إلى الداخل. أن تسأل نفسها سؤالاً بسيطاً: لماذا فقدت الجميع؟ تونس تتحاشاها، المغرب يصدّها، مالي لم تعد ترد على اتصالاتها، حتى النيجر أغلقت الخط.
في الختام، الإمارات لا تطلب الاحترام، هي تفرضه. لا تناطح ولا تثرثر، بل تنجز وتصمت. أما من لا يزال يحصي شهداءه بدل أن يصنع مستقبلاً لأحفادهم، فمشكلته ليست مع الإمارات… بل مع التاريخ.
فمن لم يحسن بناء نفسه، لا يصلح أن يكون معلّماً لغيره.
ومن كان جبله من وهم، فلن يهزّ من شموخ النخل شيئاً.
والسلام على من اختار العقل طريقاً، لا العويل.