في تندوف، لا تُقاس الجرائم بعدد الضحايا ولا بنوع السلاح المستخدم، بل بمدى براعة الجناة في قتل ما هو أعمق من الجسد: الروابط، والمشاعر، والثقة، والأسرة.
فوق رمال هذه المخيمات المعزولة، لا تسير الحياة كما نظن. هنا، ليست “الأسرة” نواة المجتمع، بل صارت وحدة استخباراتية مصغرة، يخترقها الشك، وتُديرها بوليساريو بمنطق “إما أن تكون عينًا لنا، أو هدفًا لنا”. إنها ليست حبكة خيال سياسي، بل واقع موثق بشهادات منشقين وأطر عسكرية تجرأت على كسر جدار الصمت.
الولاء أو الدم… اختر
حين بدأ الغضب يتصاعد داخل المخيمات، لم تلجأ الجبهة إلى الحوار أو تحسين ظروف المحتجزين، بل فتحت كتب الأنظمة الشمولية، وأعادت قراءة فصلها المفضل: “الإخضاع عبر تفكيك الأسرة”. تحت أنظار وبدعم مباشر من المخابرات الجزائرية (ولا حاجة للتورية هنا)، بدأت الحملة: شقيق يشي بأخيه، ابن يُجبر على التبليغ عن والده، وابنة تُستخدم كأداة ابتزاز داخل منزلها.
ليست مشاهد من “أورويل”، بل تقارير وشهادات تقول إن أجهزة DRS لم تكتفِ بإدارة المشهد عن بعد، بل صممت النموذج ببرود هندسي: حفنة امتيازات هنا، بعض التهديدات هناك، وكمية لا تُحصى من تسجيلات الإكراه التي تُستخدم للابتزاز لاحقًا.
من الحنان إلى “الوشاية القُسرية”
في هذا النظام، لا يُنظر إلى الأسرة كوحدة دعم وتكافل، بل كقنبلة موقوتة يجب تفكيكها قبل أن تنفجر. كل بيت مشبوه، وكل عاطفة تُفسر كخطر أمني محتمل. من يرفض التعاون؟ يُرسل إلى “تصحيح المسار”، وهو توصيف أنيق لمصير أقل ما يُقال عنه إنه سجن مفتوح.
هكذا أُنتج جيل مشوه، لا يعرف عن الأسرة سوى ما يُلقنه له الضابط المسؤول، جيل نشأ على فكرة أن الدم ليس أسمى من “الولاء”، وأن الحنان ترف لا يليق بالمناضلين المفترضين.
نضال بـ”نكهة أمنية”
بينما ترفع بوليساريو شعارات “التحرر”، ينهمك قادتها في تمرير ملفاتهم الأمنية إلى الأجهزة الجزائرية. وفيما يُسوّقون للمجتمع الدولي صورة “اللاجئ المقاوم”، تُدار في الخلفية آلة جهنمية تنتهك كل ما تبقى من قيم إنسانية، وتُفرغ كلمة “نضال” من معناها حتى أصبحت تبريراً أنيقاً للبطش.
المفارقة الساخرة أن من يصف نفسه بـ”الممثل الشرعي”، لا يمثل إلا مؤسسة عقيمة، لا تحسن إلا إعادة تدوير الخوف، وتوزيع القهر تحت غطاء “تقرير المصير”.
وربما الأخطر من كل ذلك، هو هذا الصمت الدولي المريب. المؤسسات الحقوقية التي تتفنن في إصدار بيانات تنديدية منمقة عن شجيرة اقتُلعت أو طفل بكى في مظاهرة، تقف عاجزة – أو متواطئة – أمام مأساة تندوف. وكأن انتهاك إنسانية الإنسان لا يستحق الإدانة… إذا تم باسم “قضية عادلة”.
مختبر قمع اسمه تندوف
لم تعد المخيمات سوى مختبر مغلق للتجارب الأمنية، حيث تُحقن الأسر بمصل الشك، وتُراقب الأمهات خوفاً من نظرات قد تفسرها المخابرات على أنها “نوايا انفصالية”، ويُربّى الأطفال على الولاء للظل لا للضوء.
لقد آن الأوان لتسمية الأمور بمسمياتها: ما يحدث ليس مجرد “انتهاك”، بل إعدام ممنهج للإنسان داخل الإنسان. ومن يبارك ذلك، أو يسكت عنه، إنما يشارك في جريمة قتل بدم بارد، ضحيتها ليست فرداً… بل فكرة الأسرة نفسها.