في الجزائر، تطبيع العلاقات مع إسرائيل يُعدّ جريمة أخلاقية، وخيانة قومية، وتفريطاً بالقضية الفلسطينية… إلا إذا تم في صمت، عبر شركات وسيطة، وبشيكات لا تحمل توقيعاً سياسياً بل رقماً حسابياً.
النظام الجزائري، الذي لا يفوّت مناسبة دون أن يعزف على نغمة “رفض التطبيع”، يتقن فنّ الازدواجية السياسية إلى حد الإعجاز. فمن جهة، يقترح نوابه قوانين لتجريم أي علاقة مع “الكيان الصهيوني”، ومن جهة أخرى، تتسلل ملايين الدولارات من عائدات النفط الجزائري إلى السوق الإسرائيلية، في تجارة حلال سياسياً طالما تمت بالسرّ، وحرام إن صارت علناً كبعض جيران السوء.
عندما تكذب الأرقام ما يعلنه المنبر
الأرقام – ويا لوقاحتها – لا تلتزم بالبروتوكول السياسي. فقد نشر مركز التجارة الدولية بيانات توضح أن الجزائر صدّرت لإسرائيل في سنة واحدة ما يناهز 21.4 مليون دولار من المواد الطاقية والكيميائية. وإذا أضفنا السنوات السابقة، نجد أن نظام “اللاءات الثلاث” (لا للتطبيع، لا للتبادل، لا للاعتراف) قد استبدلها بـ”نعم للربح، نعم للسرّية، نعم للإنكار عند اللزوم”.
هذه الصادرات وضعت الجزائر في المرتبة الرابعة عربياً في قائمة المصدّرين إلى إسرائيل، بعد دول أعلنت علاقاتها الدبلوماسية بلا وجل. أما الجزائر، فتُمارس تطبيعاً على الطريقة التقليدية: “نحن لا نطبّع، نحن فقط نبيع… بصمت”.
شعارات على الشعب وصفقات في السوق
الطريف – أو المحزن، بحسب زاوية النظر – أن النظام لا يكتفي بهذا التناقض، بل يمنع حتى الشعب من التعبير عن تضامنه مع الفلسطينيين. الوقفات الشعبية تُقمع، واللافتات تُصادر، والتهم جاهزة: “تهديد للأمن العام” أو “تنظيم غير مرخّص”. وكأن العدو الحقيقي ليس الاحتلال، بل أي احتمال لتجديد الحراك الشعبي.
في المقابل، لا مشكلة في أن تُشحن صهاريج الغاز إلى شركات أوروبية تعرف جيداً طريقها نحو تل أبيب. المهم أن يبقى الميكروفون جزائرياً، والخطاب نارياً، والمداخيل بالدولار.
الوصاية الأخلاقية بنكهة سياسية
لم يكتف النظام الجزائري بتصدير الغاز لإسرائيل، بل استورد معه أيضاً دور “الواعظ الإقليمي”. فكلما طبّعت دولة عربية، انتفضت الأبواق الإعلامية الرسمية بكلمات مثل “الانبطاح”، و”خيانة الدم العربي”، و”بيع القضية في المزاد”. لكنهم نسوا أن المزاد لا يكون بالضرورة علنياً… فهناك أيضاً ما يُدار في غرف خلفية، بإضاءة خافتة، ولغة حسابات مصرفية.
الرئيس تبون نفسه لم يمانع، في تصريح صحافي، الاعتراف بإسرائيل “عندما تقوم دولة فلسطينية”. عبارة مرنة تصلح للداخل وللخارج، وتترك الباب موارباً للتطبيع الرسمي حين تنضج الظروف أو حين تزداد الفاتورة الربحية.
فلسطين: اللافتة الذهبية لتغطية العجز السياسي
يبدو أن فلسطين في قاموس السلطة الجزائرية لم تعد قضيّة بل صارت “كلمة السر” التي تُستخدم عند الحاجة: لتخوين الخصوم، لتوجيه الأنظار عن الأزمة الاقتصادية، أو لتبرير مناورات دبلوماسية مرتجلة. فالتمسك بالمبدأ يُرفع فقط عندما يكون الكاميرا مُسلطة، أما في الكواليس، فكل شيء قابل للتفاوض… حتى الخطوط الحمراء.
نفاق لا يُشترى… بل يُصدّر
الجزائر لا تختلف كثيراً عن الدول التي تنتقدها. الفارق الوحيد أن الآخرين اختاروا الشفافية، أما هي فاختارت اللعب في الظل، والإصرار على خطاب أخلاقي لا يحتمله سجلها التجاري.
فإذا كانت إسرائيل “حراماً” في العلن، فلماذا تبقى أموالها “حلالاً” في الباطن؟ وإذا كان النظام الجزائري يجرّم التطبيع حقاً، فليبدأ بنفسه قبل أن يُحاضر على الآخرين. أما إذا بقي الحال على ما هو عليه، فالأجدر أن يُكتب على بوابة التجارة الخارجية الجزائرية:
“لا نُطبع… لكن نُصدّر بحب”