في مسرح السياسة المغربي، يبدو أن عبد الإله بنكيران قرر أن يحوّل كل خرجة إعلامية إلى عرض “حلايقي” متنقل، لا ينقصه سوى الدفّ والمزمار. الرجل الذي ترأس الحكومة يوماً، صار اليوم يتفرغ للهجوم على المواطنين لأنهم قالوا ببساطة: “تازة قبل غزة”. وهذه الجملة، لمن لا يعرفها، ليست إعلان حرب على فلسطين، بل صرخة شعبية تطالب بالمنطق: أن نهتم بأوجاعنا قبل أن نُصدر العزاء إلى الخارج.
لكن بنكيران، وقد نسي أنه تقاعد رسمياً (مع معاش محترم بحجم حزمة رواتب مجمعة)، عاد ليصف المغاربة بـ”الميكروبات” و”الحمير”. نعم، هكذا وبكل أريحية لغوية، يفرغ ما في صدره من حنق سياسي، ويقذف به في وجه من يفترض أنه “شعبه”. لو قالها سياسي في السويد؟ لفتح خطاب استقالته بنفسه. لو تلفظ بها رئيس وزراء في ألمانيا؟ لقامت عليه الصحافة والنقابات والمجتمع المدني ولم يجلس بعدها إلا في بيته. أما في المغرب؟ فلا بأس، بنكيران يُعامل كـ”تراث شعبي” لا يُنتقد.
الرجل يهاجم الحكومة الحالية أكثر من المعارضة نفسها. يشكك، يلمح، يُسمي دون أن يُسمي، ويستعمل لغة السوق بدل لغة الدولة. “الحلايقية” السياسية أصبحت مهنته الجديدة. خطبه أقرب إلى مهرجانات فولكلورية منها إلى نقاش سياسي رصين. وأسلوبه في التعبير يُشبه جلسة صُلح بين قبيلتين في القرن التاسع عشر، لا مداخلة رجل دولة سابق في القرن الواحد والعشرين.
ولأن المقارنة تطهر العيوب، فلنتخيل فقط لو خرج رئيس وزراء بريطاني سابق ونعَت البريطانيين بـ”الحمير” لأنهم انتقدوا دعمه لقضية خارجية على حساب مطالب داخلية… لوجد نفسه في اليوم التالي معتذراً، وربما مستقيلاً من كل منبر سياسي أو حزبي. في فرنسا، كان يكفي أن يقول “كلمة خشنة” على فئة من الناس ليجد نفسه متابعاً قضائياً. أما بنكيران، فهو يرى نفسه فوق المحاسبة، لأن “النية تغلب السياسة”… مع أن النية لا تعوض احترام الذكاء الجماعي.
نعم، المغاربة ليسوا ضد غزة، ولا ضد أي قضية عادلة في هذا العالم. لكنهم تعبوا من الحكمة المتناقضة التي تجعل من دعم الخارج فريضة، ومن خدمة الداخل بدعة. يريدون مدارس، لا خطب. يريدون سياسة، لا مسرحيات. يريدون من يسهر على مصالحهم، لا من ينعتهم بالحيوانات عند أول خلاف.
والمفارقة؟ أن بنكيران نفسه، عندما كان في الحكومة، لم يذكر فلسطين إلا في خطب الجمعة، بينما كان يحرر أسعار المحروقات على المقاهي. واليوم، عاد ليتحدث عن المبدإ، بينما يرفل في معاش استثنائي تحت اسم “هدية ملكية”.
في النهاية، من يُهين شعبه لا يستحق قيادته. ومن يشتم المواطنين لا يجب أن يُسمى “زعيمًا”. ومن فشل في إنقاذ الداخل، لا يحق له المزايدة على الخارج. بنكيران، بدل أن يراجع مصطلحاته، يُضاعفها. وبدل أن يمد يده للنقاش، يمد لسانه للشتيمة.
ويا سي بنكيران، الميكروبات والحمير قد يصمتون الآن، لكنهم يتقنون شيئاً اسمه صندوق الاقتراع… وهو أكثر نظافة من ألف خطبة، وأكثر تهذيباً من أي “حلايقي سياسي”.