منذ أن نالت الجزائر استقلالها سنة 1962، لم تهنأ بيوم تصالح حقيقي مع تاريخها. كأنها تخشى النظر في المرآة، فتضع عليها مساحيق “الثورة المجيدة” و”المليون ونصف شهيد” لتغطي ندوبًا لم تلتئم، وحقائق لم تُكتب. الجزائر الرسمية، لا تزال تتعامل مع التاريخ كما يتعامل المراهق مع دفتر مذكراته القديمة: إما يمزقه، أو يختلق قصصًا بطولة وهمية لتغطية الفصول المحرجة.
ولأن التجميل أسهل من الجراحة، فقد لجأت السلطة في الجزائر إلى تغليف التاريخ الوطني بإيديولوجيا رديئة الصنع. كل من تساءل عن حقبة ما بعد 1962 يُتهم بالخيانة، وكل من بحث في أرشيف المخابرات يوسَم بالعمالة، وكل من نطق باسم “كريم بلقاسم” أو “عبان رمضان” بنبرة غير نحيبية، يُخرَج من الملة الوطنية.
الجزائري اليوم لا يعرف من تاريخه سوى ما يُملى عليه في الكتب المدرسية التي كُتبت على عجل، بروح بوليسية أكثر منها تربوية. تاريخ مكتوب بممحاة، لا بقلم. تواريخ تُجتزأ، وأحداث تُعاد صياغتها، وأبطال يُصنعون في مختبر الإعلام الرسمي، بينما تُحرق الوثائق الحقيقية في صمت، ويُتهم من ينبش فيها بأنه “يشكك في الثورة”.
الحقيقة أن من يخشى التاريخ هو من لا يعرف جذوره. أو يعرفها جيدًا… ويخجل منها. من وُلد من رحم المؤامرة أو التصفية أو صفقة سياسية، لن يفتح سجل مولده طواعية. من نشأ على تصفية رفاقه في الجبال، وعلى إقصاء كل من فكر، لن يحتفي بيوميات الاستقلال. من بنى هويته على معاداة الآخر (المغرب، فرنسا، الإمارات، الكواكب المجاورة…) لا يستطيع بناء رواية متماسكة عن نفسه.
أما المواطن الجزائري البسيط، فقد تعود على هذه المسرحية الطويلة: الوطنية في النهار، الطوابير في الليل. خطاب عن “كرامة الشهداء” صباحًا، وقوارب حرڤة مساءً. شعارات عن “السيادة الوطنية” تقابلها سياسات تبعية اقتصادية مفضوحة. إنها وطنية الكاميرا، حيث العلم مرفوع دائمًا، لكن الكرامة في وضعية “انتظار الشبكة”.
الفرق بين الجزائر الرسمية والدول المتصالحة مع تاريخها، هو أن الأخيرة لا تخشى الفضيحة. بل تؤمن أن الأمم العظيمة تُبنى على الاعتراف، لا على التزوير. فرنسا اعترفت بجانب من تاريخها الاستعماري. ألمانيا درست فظائع النازية. جنوب أفريقيا واجهت سنوات الأبارتايد بمصالحة وطنية شجاعة. وحدها الجزائر تُخفي ماضيها في أدراج مغلقة، وتفتح شاشاتها للشتائم.
فالتاريخ لا يُكتب بالشعارات ولا يُروى بالدموع الاصطناعية. التاريخ حقائق، ومن لا يملك الشجاعة لقراءته، فليتركه لغيره… أو لعلّ الحقيقة، في النهاية، أكثر وطنية من الزيف