من كان يتابع نشرة الثامنة في التلفزيون الجزائري مساء الجمعة، ربما ظن لوهلة أنه أمام إعلان حرب لا رجعة فيه، لا مجرد بيان سياسي. فالهجوم الكاسح على دولة الإمارات لم يكن مجرد تعبير عن استياء عابر، بل بدا كأن مذيع النشرة يقرأ مسودة خطاب من أيام الحرب الباردة، مع فارق بسيط: الإمارات لم تفعل شيئاً!
القصة بدأت بتصريح أكاديمي جزائري – نعم، مجرد رأي لمؤرخ – حول علاقة بعض التوجهات الأمازيغية بفرنسا. تصريح أثار جدلاً في مواقع التواصل، لكنه بقي في إطار ما يُقال في المقاهي الجامعية والمناقشات التاريخية المملة التي يهرب منها الطلبة عادة. المفاجأة أن الدولة الجزائرية لم تناقش المؤرخ، بل أودعته السجن. والأسوأ؟ أنها شنت حرباً إعلامية على بلد ثالث لا علاقة له بالأمر: الإمارات!
كان من الممكن الرد على التصريح ببيان توضيحي، أو دعوة المؤرخ إلى مناظرة محترمة، أو حتى تجاهل الأمر برمّته. لكن، يبدو أن في الجزائر الجديدة – كما يُقال – لا يكفي أن تُطفئ شمعة الفكر، بل عليك أن تحرق المصباح المجاور أيضاً… ولو كان في بيت الجيران.
فما الذي يدفع دولة بكامل أجهزتها إلى استعداء الإمارات على خلفية كلام صدر من أحد مواطنيها؟ وهل الإمارات كانت مختبئة خلف الكواليس تهمس في أذن المؤرخ؟ أم أن السلطة وجدت في هذا المشهد فرصة ذهبية لتحويل الأنظار عن الأزمات المتتالية داخلياً وخارجياً؟ من المغرب إلى إسبانيا، ثم فرنسا، والآن الإمارات… موسوعة العداوات تتسع في الجزائر بوتيرة أسرع من توسع خطوط المترو في العاصمة.
بيان التلفزيون الرسمي لم يكتفِ بنبرة هجومية، بل تجاوز الأعراف الدبلوماسية كأن من صاغه قرأ للتو تغريدة غاضبة وقرر الردّ فوراً دون مشورة الخارجية. كلمات مثل “كيانات شبيهة في الاصطناع” و”السيدة الشامخة” أضفت على البيان مسحة درامية لا تُرى عادةً إلا في خطب القذافي أو أفلام التراجيديا الوطنية.
أما المؤرخ محمد الأمين بلغيث، فقد انتقل من مقعد الضيف إلى زنزانة الحبس المؤقت في غضون 24 ساعة. تُهم من العيار الثقيل: المساس بالوحدة الوطنية، الاعتداء على رموز الأمة، نشر خطاب الكراهية… لم يتبقَّ إلا أن يُتّهم بإسقاط الدينار عمداً والتسبب في انقطاع الإنترنت!
وفي الخلفية، يعود الجدل الأبدي في الجزائر حول الهوية، كأنه لعنة لا يريد أن تبرح المكان: عروبة وأمازيغية، ماضٍ واستعمار، جغرافيا مشروخة بالشك. وبينما المواطن العادي يركض خلف زيت الطهي، تهدر الدولة وقتها في مطاردة الأفكار، ومحاربة التغريدات، وتخوين الباحثين، وكأن البلاد وصلت إلى قمة الرخاء ولم يتبقَ إلا تنظيف العقول.
الغريب أن الهجوم على الإمارات جاء بعد أشهر من “شهر عسل” دبلوماسي كانت فيه التصريحات عن العلاقات الأخوية لا تُعد ولا تُحصى. ويبدو أن ما حدث مع فرنسا يتكرر: نُرسل إشارات ود، ثم نعود بخنجر الإعلام لنطعن في الخاصرة، كلما شعرنا بالقلق أو الملل.
الحقيقة أن النظام الجزائري، في سعيه المحموم للظهور بمظهر القوي المهاب، بات يُكثر من الخصومات لدرجة أنه نسي أن السياسة ليست مصارعة حرة. الخصومة لا تصنع الهيبة، والشتيمة لا تصنع السيادة، أما الوطنية الحقة، فلا تُقاس بعدد الدول التي نُغضبها في الشهر الواحد.