في الجزائر، لم يعد التلفزيون العمومي مجرد وسيلة إعلام، بل صار أشبه بسرير تحليل نفسي جماعي، حيث تستلقي الدولة على الهواء مباشرة، وتبدأ في تفريغ لا وعيها السياسي والهوياتي أمام ملايين المشاهدين.
آخر الحلقات؟ نوبة غضب موجهة ضد دولة الإمارات، واتهامات بالجملة: “دويلة مصطنعة”، “كيان بلا جذور”، “خطر على الهوية المغاربية”… كل هذا ليس في نشرة رأي، بل في تقرير رسمي، بتمويل عمومي، وبهندسة عصبية خالصة.
لن نحلل هنا السياسة. سنترك الجغرافيا جانبًا. ونتوجه رأسًا إلى العيادة النفسية، لأن ما قيل ليس خطابًا دبلوماسيًا، بل حالة نفسية تستحق المتابعة، وربما جرعة مهدئ.
الإسقاط: الطبيب قال “احكِ عن الآخر”، فبدأ يحكي عن نفسه
حين يقول التلفزيون الجزائري إن الإمارات “كيان هجين بلا جذور”، فهو لا يصف الآخر، بل يُسقط مخاوفه هو. الإسقاط النفسي، كما نعرف، هو أول تمرين في العلاج: تنسب للآخر ما تخشاه في ذاتك. والحق أن النظام الجزائري، منذ الاستقلال، يعاني أزمة شرعية معلّقة، لم يستطع حلّها عبر الانتخابات ولا بالتنمية، فقرر أن يختبئ خلف صورة “الثورة التي لا تنتهي”.
عقدة التاريخ: الماضي المجيد، الحاضر المجهول
كلما اشتد الحديث عن “الثوابت العريقة” و”التاريخ المقاوم”، اعرف أن الحاضر لا يحتوي على ما يُسوق. كأن الخطاب يقول: “لا ننتمي للمستقبل، فلنصنع منه متحفًا”. في العمق، هي محاولة لإخفاء فشل الدولة في التحول إلى نموذج حديث، رغم أنها تملك كل الإمكانيات… ما عدا الرؤية.
تضخيم الذات: الجزائر دولة عظيمة… فقط لا تسأل كيف؟
يظهر الدفاع بالتضخيم في كل خطاب رسمي جزائري تقريبًا: “الجزائر العميقة”، “الجزائر القوية”، “الجزائر صاحبة المواقف الثابتة”. كلها عبارات تصلح كعناوين لأفلام حربية من حقبة السبعينات، لكنها لا تصمد أمام سؤال بسيط: ماذا أنجزتم اليوم؟
وهنا تكمن الحيلة النفسية: إذا لم تقدر على تقديم منجزات حديثة، اصنع منها مجدًا لغويًا.
قلق الهوية: من نحن؟ ولماذا نخاف أن نعرف؟
حين يتكرر الحديث عن “التهديد للهوية”، فهذا لا يعني أن هناك من يهددها فعلاً، بل أن النظام يشعر بأن هويته لم تعد راسخة. في بلد تتجاذبه الأمازيغية والعربية، الجهوية والمركزية، والإسلام السياسي والعلمانية المستترة، يصبح خطاب “نحن موحدون” أشبه بطمأنة مريض يقول لنفسه: “أنا بخير، أنا بخير” وهو يرتجف.
جنون العظمة المحاصر: كلهم يتآمرون علينا لأننا عظماء!
من أبرز أعراض الهوس السياسي: أن ترى نفسك ضحية مؤامرة كونية. الإمارات؟ مؤامرة. المغرب؟ مؤامرة. فرنسا؟ تآمر. حتى المريخ… يحتمل أنه يتجسس. هذه البارانويا الجماعية ليست جديدة، لكنها تُستعمل بذكاء: كلما فشل النظام داخليًا، ألقى اللوم على عدو خارجي. كلما ارتفعت أسعار الطماطم، ظهرت يد “الاستعمار الجديد”.
الخطاب الجزائري الرسمي، كما تعكسه وسائل إعلامه، لم يعد سياسيًا بقدر ما هو نفسي. إنه نظام يتكلم عن غيره ليهرب من نفسه، يهاجم الآخر لأنه عاجز عن مصالحة داخله، ويضخم ماضيه لأنه لا يثق في مستقبله.
وفي النهاية، كل هذا الصراخ لا يخفي الحقيقة: أن العالم العربي يتغير، يتصالح، ينفتح، يتطور… بينما الجزائر الرسمية ما تزال عالقة في مسودة خطاب من زمن الأبيض والأسود.