عندما تصبح الحقيقة خيانة وطنية

بوشعيب البازي

في الجزائر، لا حاجة لك لاختراق قاعدة عسكرية، ولا لتمويل خلية نائمة كي تُتّهم بالخيانة. يكفي فقط أن تقول جملة واحدة بصوت مرتفع: “الجزائر بلا تاريخ حقيقي.”

هذا ما فعله المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث في مقابلة عابرة على قناة سكاي نيوز عربية. الرجل، الذي درّس أجيالاً من الطلبة في جامعات الجزائر، والذي يعرف خبايا الأرشيف العثماني والفرنسي أفضل من مقدمي نشرات الثامنة، قالها ببساطة أكاديمية، وبلغة علمية هادئة. النتيجة؟ عاصفة من الهستيريا الإعلامية، استنفار وطني على شاشات التلفزيون، واتهامات جاهزة بالتآمر مع “الأعداء”.

الطريف؟ أن بلغيث لم يخترع شيئاً. هو فقط كرر ما سبقه إليه رشيد بوجدرة، وياسمينة خضرا، وكمال داود، وصلاح الدين شرفي، وبوعلام صنصال… كلهم أبناء هذا الوطن، لا يحملون جواز سفر مغربي ولا رتبة في المخزن، ولا شهادة في إعداد الشاي الصحراوي.

لكن في الجزائر، المعادلة معكوسة: من يقول الحقيقة يُرمى بالخيانة، ومن يزوّر التاريخ يُكرّم كـ”باحث في مركز دراسات إستراتيجية”. كلما كانت القصة مفبركة أكثر، زاد وزنها الأكاديمي، وكلما اقتربت من الواقع، اقتربت بدورك من فوهة الاتهام.

بلغيث قال ما لم يُرِد النظام سماعه: أن سردية “الأمة الخالدة منذ فجر الإنسان العاقل” لا تصمد أمام ورقة أرشيف واحدة. وأن 1830 – تاريخ بداية الاحتلال الفرنسي – ليس ولادة دولة، بل إعلان نكبة. ورغم أن البداية مأساوية، تصر السلطة على كتابتها بماء الذهب، وربما تطبعها يوماً على العملة الوطنية بجوار صورة بطل وهمي.

أما الإعلام، فاختار أن يلبس عباءة المحارب، يرفع راية “المؤامرة الكونية” كلما نطق أحدهم بجملة غير مصادق عليها من دار السلطة. وهكذا يتحول برنامج حواري إلى محكمة تفتيش، والمُؤرّخ إلى عدو داخلي.

في النهاية، لا أحد ينكر أن الجزائر تملك ذاكرة، لكنها ليست بالضرورة تاريخاً. والفرق بينهما، أن الأولى تصطف حسب مشاعر السلطة، والثاني يُكتَب حسب الأدلة. وبين الإثنين، يظل من يقول الحقيقة مهدداً دائماً بالتخوين… باسم الوطنية طبعاً.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: