“فرنسا والجزائر.. حين تتحول السفارات إلى ميادين حرب باردة مصغّرة”

حنان الفاتحي

منذ متى كانت البعثات الدبلوماسية تُقاس بالهكتارات؟ ومنذ متى أصبحت مواقف السيارات تهديداً للسيادة الوطنية؟ يبدو أن العلاقات الفرنسية الجزائرية قررت أخيراً أن تتخلى عن الرتابة الدبلوماسية، وأن تنخرط في فصل جديد من مسلسل “من يُهين الآخر أكثر، دون أن يرف له جفن”.

في مشهد أقرب إلى حرب الجيران الذين يتنازعون على حدود الحديقة الخلفية، قررت الجزائر تقليص مساحة سفارة فرنسا من أربعة هكتارات إلى هكتار واحد، وكأن الدبلوماسية تُدار بالمسطرة والشريط الأصفر. أما إقامة السفير الفرنسي – ذلك القصر الذي قد يحسد نفسه على موقعه – فمصيره الهدم المعنوي، بعد أن خُفضت مساحته من 14 إلى هكتارين فقط، عقاباً على ما يبدو لموقف سيارات أُغلق في باريس!

فرنسا من جهتها لم تقف مكتوفة الأيدي، فردت على “هندسة الانتقام” بطريقتها، ففرضت 12 ألف يورو على سفارة الجزائر مقابل منصة حراسة – في حركة يمكن وصفها بعبقرية جباية ذات طابع سياسي – وها هي تعيد النظر في ملفات الجزائريين المعارضين على أراضيها، لكنها تتأنى ببطء السلحفاة السياسية: تأجيل بعد تأجيل، حتى يخنق الغضب الجزائري نفسه بنفسه.

أما الأكروبات الحقيقية، فهي في ملف أكسيل بلعباسي، القيادي في حركة “ماك” الانفصالية، الذي تطالب الجزائر بتسليمه، بينما تبدو فرنسا في حالة تفكير وجودي عميق: هل هذا ملف جنائي أم سياسي؟ هل نحاكم الرجل أم نفاوض به؟ وفي كل تأجيل، ترتفع حرارة الدم في الجزائر درجة، إلى أن دخل الملف غرفة العناية المركزة الدبلوماسية، وسط تسريبات عن أن باريس تميل إلى الرفض.

كل ذلك، بينما القنصليات تُفتش، والسفراء يُستدعون، والمواقف تُختصر في: “لن نرضخ!” و”لن نصمت!”… والحقيقة أن أحداً لا يصغي للآخر، وكأن العلاقات بين البلدين دخلت مرحلة الـ”بلوكتك” المتبادل.

أما الأجمل (أو المؤسف، حسب زاوية النظر)، فهو أن الأزمة لا تقتصر على الأمتار والعقارات، بل تمتد إلى لاجئين سياسيين، وناشطين على السوشيال ميديا، ومذكرات توقيف دولية تتجول في الأجواء دون هبوط، وموظف قنصلي جزائري حُشر في زنزانة فرنسية بتهمة لم تعد أحد يتذكر تفاصيلها، لكنها تُناسب جداً أجواء الأزمة.

طبعاً، لا ننسى الخلفيات: دعم فرنسا للموقف المغربي من الصحراء، توقيف الجزائر لكاتب جزائري-فرنسي بتهمة “ما لم يُفصح عنه جيداً”، وأحكام قضائية بمائة عام – لا أكثر – ضد وزير سابق، لم يُسلم، ولن يُسلم، لأن باريس لا تُؤمن بمحاكمات “بطعم الثأر”.

النتيجة؟ علاقات جزائرية-فرنسية باتت تشبه زواجاً قديماً فاشلاً، يرفض الطرفان فيه الطلاق، ويصرّان على البقاء في المنزل نفسه، كلٌّ في غرفة، يتبادلان التهديد بالتصعيد، ويتجسسان على مَن يستخدم الحمّام أولاً.

هل من وساطة أوروبية؟ ربما. لكن من يتوسط في نزاع يدور حول مواقف سيارات؟ من يقنع فرنسا أن موقفاً لا يُهدد أمن الدولة؟ ومن يُقنع الجزائر أن تقليص مساحة سفارة ليس إنجازاً استراتيجياً؟

في النهاية، إذا كانت هذه الأزمة دليلاً على شيء، فهي على أن السياسة – حين تفقد الأفكار – تصبح حرفة عقارية، وميدانها ليس الوزارات بل ساحات السفارات. أما الضحية الكبرى، فهي فكرة التعاون بين بلدين يجمعهما التاريخ أكثر مما يفرقهما الحقد.

وسؤال أخير: من يدفع 12 ألف يورو مقابل منصة حراسة؟ السفارة الجزائرية في باريس… ولكن لا أحد يعرف لماذا حتى الآن؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: