“مرضى من ورق، وإحسان رقمي: حين يصبح تيك توك مستشفى ومصرفًا واحتيالًا”

بقلم: بوشعيب البازي

مرحبًا بكم في عيادات “تيك توك” الافتراضية، حيث لا حاجة لطبيب ولا وصفة دواء. يكفي بث مباشر، جرعة بكاء متوسطة، وكلمة “ساعدوني” مكتوبة بخط مأساوي على الجبين… والباقي سيتكفل به الجمهور الكريم.

في زمن صار فيه الإحسان محتوى قابلاً للمونتاج، انبثقت موجة من “المرضى” الذين لا تعرفهم المستشفيات ولا تسجلهم قوائم العلاج، لكنهم يزدهرون على منصات التواصل، خصوصًا في بثوث “التيك توك”. هؤلاء ليسوا بحاجة لأطباء بقدر حاجتهم لمدير إنتاج و”مونتير” محترف.

ولأن لكل مسرحية مخرجًا، فصاحب الحساب أو “التيكتوكر” يلعب دور السمسار الإنساني، يقدم الحالة، يصور الألم، ويعد المتابعين بأن “كل فلس ستذهب للمريض”… مع خصم نسبة بسيطة جدًا جدًا – لا تتجاوز، ربما، ما يكفي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في إسطنبول.

لكن الكواليس أكثر إثارة من العرض نفسه. فبحسب شهادات جمعيات خيرية تواصلت مع هؤلاء “المرضى”، تبين أن أغلبهم لا يرغبون بالعلاج أصلًا، بل يصرّون على استلام المال “كاش”، دون أدنى خجل. فهم ليسوا مرضى بقدر ما هم “مستثمرون في المأساة”، بينما “التيكتوكر” شريك إعلامي يحصل على نسبته مقابل إدارة الحملة التبرعية، أو كما يسميها البعض “مشروع نصبة متكاملة”.

والأدهى أن كثيرًا من هذه الاتفاقات تتم “في الخاص”، حيث يتواصل صاحب الحساب مع شخص يدّعي المرض، يتفقان على التفاصيل، ثم تبدأ الحملة تحت شعار “أنقذوا الطفلة فلانة”… وهي طفلة لا يعرفها أحد، وقد لا تكون موجودة أصلًا إلا في خيال فني واسع.

هذه الظاهرة لم تعد مجرد حالات فردية، بل تحولت إلى صناعة موازية للإحسان الحقيقي، تهدد مصداقية العمل الخيري وتستنزف جيوب المتابعين الذين يتبرعون بنية حسنة، بينما تذهب أموالهم إلى جيوب أخرى أكثر دهاءً من المرض نفسه.

وهنا، لا بد من تدخل حازم من السلطات، لوضع حد لهذا الاستغلال الرقمي المنظم، وتفعيل الرقابة على حملات التبرعات الإلكترونية التي تجري بلا حسيب ولا رقيب. فالإحسان الحقيقي لا يحتاج إلى بث مباشر، بل إلى ضمير مباشر.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: