استقبال ملكي يعيد رسم معالم التعاون جنوب–جنوب: المغرب ودول الساحل في شراكة استراتيجية نحو الأطلسي
بوشعيب البازي
جسّد الاستقبال الذي خصّ به صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مساء الاثنين، وزراء خارجية بوركينا فاسو ومالي والنيجر، تحولا نوعيا في معادلة العلاقات المغربية-الإفريقية، بما يتجاوز البعد الدبلوماسي التقليدي نحو مقاربة شاملة ترتكز على التاريخ المشترك والتكامل الجيوسياسي، وتُترجم رؤية استراتيجية للمملكة تقوم على تعزيز التعاون جنوب-جنوب، والتنمية المشتركة، والتضامن الفعلي.
اللقاء حمل دلالات عميقة، لا تقتصر على الجانب الرمزي، بل تعكس بُعدًا استراتيجيًا ينسجم مع الرؤية الملكية لتوطيد مكانة المغرب كفاعل قارّي مسؤول، يضع التنمية المستدامة والاستقرار الإقليمي في قلب أولوياته. المبادرة الملكية الرامية إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، والتي شكلت أحد محاور هذا اللقاء، تؤكد الطموح المغربي في مدّ جسور استراتيجية بين غرب إفريقيا والفضاء الأطلسي، ما يكرّس دور المملكة كمحور عبور اقتصادي وأمني وتنموي رئيسي.
في هذا السياق، عبّر وزراء الخارجية الثلاثة عن امتنان رؤساء دولهم للعناية الخاصة التي ما فتئ الملك محمد السادس يُوليها لمنطقة الساحل، وللمبادرات التنموية الملموسة التي تقودها المملكة، لا سيما مبادرة الأطلسي. كما شددوا على التزامهم بتسريع وتيرة تفعيل هذه المبادرة، إدراكًا منهم لما توفره من فرص استثنائية في مجالات الاقتصاد والتجارة والأمن الإقليمي.
المغرب، بخبرته الرائدة في مجابهة التحديات الأمنية والتهديدات الإرهابية، يقدّم نموذجًا متكاملاً يجمع بين التنمية الاقتصادية، والمقاربة الأمنية الاستباقية، والتأطير الروحي المعتدل، وهو النموذج الذي أضحى مرجعًا إقليميًا، خصوصًا في ظل إيمان الرباط بأن مكافحة الإرهاب لا يمكن أن تقتصر على الوسائل العسكرية فحسب، بل يجب أن تُقرن بإستراتيجيات شمولية تنموية وروحية وإنسانية.
وقد أبرز اللقاء أيضًا أن المملكة تواكب تحولات المشهد الجيوسياسي في منطقة الساحل، بعد انسحاب الدول الثلاث من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) وتشكيل تحالف جديد باسم “اتحاد دول الساحل”. وهو تحالف يُراهن على توطيد التعاون الفعّال بعيدًا عن البيروقراطية والتعقيدات التي ميزت تجارب سابقة.
الاستقبال الملكي يأتي ليكرّس بداية مرحلة جديدة من التعاون الإقليمي قائمة على الواقعية السياسية، والبراغماتية الاقتصادية، والمقاربة التضامنية في معالجة القضايا المشتركة. كما يعكس حرص جلالة الملك على تطوير شراكات مسؤولة وناجعة مع الدول الإفريقية، مبنية على الثقة والمصالح المتبادلة.
وبهذه المبادرة، يواصل المغرب توطيد موقعه كشريك موثوق على الساحة الإفريقية، يضع في صلب استراتيجيته التنمية المندمجة والأمن الجماعي. كما يمنح دول الساحل منفذًا جيوستراتيجيا ثمينا نحو المحيط الأطلسي، يمكن أن يُغيّر مستقبلها الاقتصادي، ويُسهم في إدماجها الفعلي في الدورة الاقتصادية العالمية.
إنه تحول بنّاء، تتقاطع فيه الإرادة السياسية بالتصور الملكي البعيد المدى، لترسيخ أمن وتنمية مستدامة في إفريقيا، بقيادة مغربية حريصة على أن تظل القارة في قلب رهانات المستقبل.