الإسلام في أوروبا بين الأمس واليوم: نحو نموذج متجدد للتدين من وحي التجربة الأندلسية

عبد الله بوصوف

ألقيتُ محاضرة علمية بمختبر الفكر الإسلامي والترجمة وحوار الحضارات بكلية الآداب بنمسيك الدار البيضاء، تناولتُ فيها موضوع “الإسلام في أوروبا بين الأمس واليوم”. وقد سعت هذه المحاضرة إلى مقاربة تاريخية–تحليلية للتجربة الإسلامية في الأندلس، واستثمارها كإطار مرجعي لبناء نموذج متجدد للتدين ينسجم مع السياق الأوروبي المعاصر.

استعرضتُ في المحاضرة ملامح الوجود الإسلامي في الأندلس، لا باعتباره مجرد حقبة تاريخية، بل كنموذج حضاري غني بالتفاعل الإنساني والتنوع الثقافي، حيث أسهم المسلمون الأوائل في إرساء قيم العيش المشترك والتعدد الثقافي واللغوي، دون أن يتنازلوا عن ثوابتهم الدينية أو هويتهم الروحية. وقد بُني ذلك على ثلاثة أسس مركزية: العقيدة، والمذهب، والسلوك الروحي.

ركزتُ في العرض على أهمية العقيدة الأشعرية، بوصفها إطارًا عقديًا عقلانيًا وسطيًا، يجمع بين النقل والعقل، ويرفض الغلو والتكفير، مما يجعلها ملائمة لواقع المسلمين في أوروبا حيث التعدد الديني والثقافي. كما تناولتُ المذهب المالكي، بما يتميز به من مرونة فقهية وتعدد في الأصول، مما يمنحه قدرة على استيعاب خصوصيات السياقات الأوروبية، دون الخروج عن المرجعية الإسلامية الأصيلة.

أما البعد الروحي، فقد مثلته التصوف السني، القائم على تزكية النفس وتعمير الباطن، والذي يسهم في تربية الفرد المسلم على قيم السلم والتسامح والانفتاح، وهو بعد حاسم في تجاوز التمثلات السطحية للتدين والتموضع الإيجابي في المجتمعات الغربية.

كل ذلك يجب أن يكون مقرونًا بمؤسسة ضامنة، وقد أشرت هنا إلى إمارة المؤمنين كنموذج للضمان الديني والسياسي الذي يكفل حرية أداء الشعائر الدينية، ويحمي التعدد ضمن إطار من التدبير الإيجابي للتنوع. فالمسلم الأوروبي بحاجة إلى مرجعية روحية وفقهية موثوقة، تُجنبه التذبذب بين التيارات المتصارعة، وتمنحه تصورًا متوازنًا عن الدين والحياة.

خلصتُ في نهاية المحاضرة إلى أن مستقبل الإسلام في أوروبا رهين بقدرتنا على استلهام عناصر القوة من تاريخنا الحضاري، وتجديدها بما ينسجم مع التحديات المعاصرة، لبناء نموذج تدين يزاوج بين الثوابت والمرونة، بين الانتماء والانفتاح، ويقدم صورة ناضجة للإسلام كدين يسهم في بناء السلام الإنساني.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: