في عالم السياسة، قد تُغتفر التناقضات حين تكون وليدة الضرورة، لكن حين تصبح نهجًا دائمًا، فإن ذلك لا يشير إلا إلى غياب المبدأ، أو على الأقل، إلى تلاشي الرؤية. هذا هو الحال في التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين في عدد من العواصم العربية، التي تراها خطرًا داهمًا في منطقة، وحليفًا محتملًا في منطقة أخرى. وبين هذين التناقضين، يصبح التنظيم لاعبًا لا يمكن تجاهله، ولو من باب المساومة المؤقتة.
في المشرق، تُلاحق الجماعة بتهم التطرف وتُقمع بشتى الوسائل، فيما تُنسج معها علاقات في السرّ عند الحاجة، تمامًا كما حدث مع بعض فروعها في اليمن، حيث تحوّلت من شريك ظرفي في الحرب إلى عبء على مشروع الدولة، بعد أن استغلّت شرعيتها المؤقتة لتقويض مؤسسات الشرعية ذاتها.
أما في المغرب، فالصورة أكثر تعقيدًا. فهنا لم تُقصَ الجماعة من المشهد، بل أعيد تدويرها ضمن مؤسسات الدولة، عبر ذراعها السياسي – حزب العدالة والتنمية – الذي شارك في السلطة لسنوات، دون أن يتخلّى عن جذوره الإيديولوجية. التجربة المغربية مع الإخوان لم تكن حالة مواجهة، بل أقرب إلى تسوية هادئة، أُدرج فيها التنظيم ضمن اللعبة السياسية الرسمية، مما وفّر له غطاءً شرعيًا نادرًا في الإقليم، لكنه في الوقت ذاته كبّله بمنطق الدولة.
لكن المفارقة أن هذا “الاحتواء السياسي” لم يمنع الحزب من التعبير عن ازدواجيته، فحين كانت المصالح تفرض خطابًا معتدلًا في الداخل، لم يتردد بعض رموزه في التماهي مع سرديات التنظيم العابر للحدود في قضايا إقليمية، بما فيها قضايا على تماس مباشر مع الأمن القومي المغربي. هذه الازدواجية بدت جلية في مواقف الحزب من ملف الصحراء، حيث حاول بعض قادته مسك العصا من الوسط، بين دعم الطرح الوطني والانجرار أحيانًا إلى نغمة “الوسطية المائعة” التي تستثمر في الضبابية.
المشهد يتعقّد أكثر حين نلحظ أن العواصم التي تشنّ حربًا إعلامية على التنظيم في المشرق، لا تمانع في مباركة مشاركته في الحكم في المغرب، أو التغاضي عن خطابه في دول أخرى. فتُشيطن الجماعة في مكان، وتُقدّم بوصفها نموذجًا لـ”الإسلام الديمقراطي” في مكان آخر. هذه الازدواجية لا تُضعف الجماعة بقدر ما تضعف مصداقية خصومها، وتُفقدهم أدوات المواجهة الأخلاقية.
من جهتها، لا تبدو الجماعة عاجزة عن قراءة هذه التناقضات، بل توظفها بدهاء، فتُظهر وجهًا براغماتيًا حينًا، وثوريًا حينًا آخر، وفقًا لمكانها في خارطة السلطة. تُجيد التكيّف، وتُتقن التلوّن، وهي في المغرب مثال واضح على ذلك: تارةً في قلب الحكم، وتارةً في قلب المعارضة، دون أن تتخلى عن سرديتها الأصلية.
لا يبدو أن الإخوان قد تغيّروا جذريًا، بل تغيّرت طريقة رؤيتنا لهم. السؤال لم يعد: ما الذي تريده الجماعة؟ بل: ما الذي تريده الدول نفسها؟ هل تسعى إلى بناء مشروع واضح المعالم، أم تدير مصالحها اليومية بتكتيك اللحظة؟
حين يُعامل التنظيم كحليف في مكان وعدو في آخر، تفقد السلطة خطابها الصلب، ويتحول الأمن القومي إلى ملف قابل للمساومة. ووسط هذه التناقضات، تبرز تجربة المغرب بوصفها مرآة لواقع عربي مأزوم: احتواء مشروط دون تفكيك البنية الفكرية، وشراكة سياسية لم تزل في العمق رهينة مشروع عابر للحدود.
إن كانت السياسة فن الممكن، فالممكن يجب أن يُبنى على ثوابت. أما أن تتحول المواجهة مع الإخوان إلى لعبة مرنة تتغيّر بتغيّر الرياح، فإن التنظيم وحده هو من يكسب، مستثمرًا في ازدواجية خصومه قبل أن يستثمر في جمهوره.