الدخان الأبيض… متى يُشاهد في سماء الجزائر؟

بوشعيب البازي

بعد وفاة البابا فرانسيس، ستتجه أنظار العالم مجددًا نحو مِدخنة الفاتيكان، تترقّب بصمت صدور الدخان الأبيض، إيذانًا بانتخاب بابا جديد. تقليد رمزي حافظت عليه الكنيسة الكاثوليكية قرونًا، يحمل في جوهره دلالة الحسم والاتفاق، في زمن أصبحت فيه الرموز لغة سياسية قائمة بذاتها.

لكن بعيدًا عن روما، ينتظر المجتمع الدولي “دخانًا أبيض” من نوع آخر، قادمًا من مجلس الأمن الدولي في نيويورك، حيث تُعلَّق الآمال على أن يصدر في أكتوبر المقبل قرار حاسم بشأن نزاع الصحراء المغربية، يعكس إرادة المجتمع الدولي في إنهاء صراع طال أكثر من نصف قرن، وتكريس الحل السياسي السلمي القائم على مبادرة الحكم الذاتي، التي اقترحها المغرب منذ 2007.

اليوم، لم يعد خافيًا أن ما يسمى بنزاع الصحراء لا جذور له في التاريخ، بل هو صناعة سياسية ذات طابع عدائي ضد وحدة المغرب الترابية. الجزائر، ومنذ بدايات استقلالها، أظهرت توترًا مستمرًا إزاء المغرب، عبّرت عنه بحرب الرمال سنة 1963، لتتحول لاحقًا إلى داعم رئيسي لحركة انفصالية افتعلتها في سياق استعمار إسباني للأقاليم الصحراوية المغربية، مستثمرة التطلعات المشروعة لشباب تلك المناطق، ومُجيّرة أحلامهم لخدمة مشروعها الإقليمي.

الواقع أن الجزائر لم تكن يومًا طرفًا محايدًا، بل هي طرفٌ أصيل في النزاع، تمويلاً وتأطيرًا ودبلوماسيًا، مما حوّلها إلى عقبة رئيسية أمام أي حلّ ممكن، بل وجعل منها محور اهتمام كل الجهود الدولية الرامية إلى تسوية النزاع.

في هذا السياق، برز مقترح الحكم الذاتي المغربي كحلٍ وحيد واقعي وفعّال، نال دعمًا دوليًا واسعًا، آخره ما صدر عن فرنسا، إسبانيا، وعدد من دول أفريقيا، أميركا اللاتينية وآسيا، وصولاً إلى موقف الولايات المتحدة الأميركية المؤيد، والذي تجسد في تعيين مبعوث خاص من الرئيس السابق دونالد ترامب، مهمته كسر الجمود ودفع الطرف الجزائري إلى طاولة الحل.

لكنّ الجزائر، بدل أن تتفاعل مع هذا التحول الدولي، فضّلت الانغلاق والانفعال، مصدّرة أزماتها الداخلية نحو الخارج، من خلال تعميم خطاب “التآمر الخارجي” وتجييش الشعب عبر قانون “التعبئة العامة”، وهو أسلوب كلاسيكي لنظام لم يستطع الخروج من عباءة حزب جبهة التحرير ومن عقلية العسكر المتحكم في الدولة منذ عقود.

صحيح أن الجزائر أنجزت بعض خطوات الانفتاح في لحظة ما بعد انهيار المعسكر الشرقي، لكنها سرعان ما ارتدت عنها. بقي الجيش نفسه، يتحكم من خلف الستار، يمارس الوصاية على البلاد ويغلق الأبواب أمام كل إصلاح. واليوم، باتت الجزائر بحاجة ماسة إلى شجاعة سياسية تسمح لها بالخروج من دوامة النزاع المفتعل والانتصار على أوهام الماضي.

إن المجتمع الدولي، وهو يتجه نحو فرض حل سلمي، لا يتطلب من الجزائر أن “تنهزم”، بل أن تختار طريقًا جديدًا، يحفظ كرامتها ويمكّنها من شراكة حقيقية مع المغرب في مشاريع كبرى؛ من المبادرة الأطلسية، إلى أنبوب الغاز نيجيريا–المغرب، وصولًا إلى طموحات التنمية المغاربية التي باتت ضرورة أكثر من كونها خيارًا.

لكن هذا لن يتحقق إلا بظهور “الدخان الأبيض” من الجزائر نفسها؛ دخانٌ ينبعث من تغيّر في السياسات، من مصالحة مع الجغرافيا والتاريخ، من إدراك أن العداء للمغرب لم يعد له مبرر في عالم يتغيّر بسرعة. المطلوب ليس فقط قرار أممي، بل قرار سياسي جزائري داخلي يُدشّن صفحة جديدة في المنطقة، تُطوى فيها صفحة الانفصال نهائيًا، وتُفتح أخرى للتكامل والازدهار المشترك.

فهل يلوح في الأفق دخان أبيض من الجزائر… أم أن الأفران السياسية هناك لم تُشعل بعد؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: