في زمن التيك توك… صار الجاهل أستاذًا والمثقف “مطلوبًا للسكوت”
عزيزي القارئ، لا تتعجب إن وجدت صاحب مستوى ابتدائي يناقشك في الجيوسياسة الدولية، أو يقدّم لك تحليلًا استراتيجيًا عن الصراع في بحر الصين الجنوبي، أو يشرح لك كيف تعمل الثقوب السوداء، بينما هو لا يُفرّق بين كان وأخواتها، ولا يحفظ حتى جدول الضرب. إنه عصر المعجزات، حيث تحولت قلة الشيء إلى شهادة دكتوراه، والبطالة الفكرية إلى منصة تحليل سياسي.
في مواقع التواصل، خاصة في التيك توك، يكفي أن تضع نظارات طبية بلا عدسات، و”فلتر وقار”، وتتحدث بثقة مصطنعة، لتتحوّل فورًا إلى “محلل استراتيجي”، يناقشك في خرائط تقسيم العالم، وهو لا يعرف موقع بلده على الخريطة أصلاً!
ولن ننسى “المحللة الأدبية” التي ظهرت فجأة في إحدى لايفات التيك توك، تمسك مقالًا صحفيًا وكأنها تمسك بردية فرعونية، وتشرع في تحليله كما لو كانت أستاذة في النقد الحديث… وهي في الحقيقة لا تفرّق بين المقال الافتتاحي ووصفة الكيكة في صفحة المطبخ!
تبدأ تحلل العنوان وكأنه يحمل شيفرة دافنشي، وتشرح المصطلحات الصحفية بلغتها الخاصة التي لا علاقة لها لا بالصحافة، ولا باللغة، ولا حتى بالمنطق. أما علامات الترقيم، فهي بالنسبة لها مجرد زينة إضافية لا داعي لها، كالسكر في قهوة دايت.
ثم تشرع في نقد “الأسلوب الإنشائي” للمقال، بينما هي لا تعرف ما الفرق بين الفعل والفاعل. كل ما تملكه هو ثقة زائدة، وكاميرا موجهة بزاوية تجعلها تبدو مثقفة، وابتسامة عريضة تُقنع القطيع أن “معها حق”، فقط لأنها قالت “بصراحة أنا شفت المقال فيه طاقة سلبية”.
وتحاول جاهدة إقناع متابعيها أن الصحفي لا يفهم شيئًا، وأنها “لو كانت مكانه” لكتبت المقال بطريقة أقوى وأعمق… هذا رغم أنها تكتب “صحافة” بالتاء المربوطة و”أدب” بالسين!
هي الأخرى، نسخة مكررة من تلك الفئة التي تعتقد أن مجرد قراءة عنوان فيسبوك يمنحها الحق في أن تصبح ناقدة أدبية وصحفية ومحللة سياسية في آنٍ واحد. وفي لحظة صدق، تكاد تقول لنفسك: “والله لو كان نجيب محفوظ حيًّا، لأغلق دفتره واعتزل الكتابة!
الجهل لم يعد عيبًا، بل صار رأيًا. والأسوأ من ذلك، أن هذا “المفكر الافتراضي” يطلب منك السكوت، بل يفرضه عليك، لأنك “ما فهمتش القصد ديالو”، أو لأنك من النخبة “المنفصلة عن الشعب”. ويتعامل معك وكأن دماغه فيه هارد ديسك من معلومات نووية، بينما الحقيقة أنه بالكاد يفرّق بين “مفاعل نووي” و”معلّق رياضي”.
أي زمن هذا؟! زمن يتحدث فيه الجميع في كل شيء، بلا علم، بلا قراءة، بلا سؤال. الجهل صار موضة، والخطأ له أنصار، والمنطق بات “نخبوية معقدة”. الكارثة ليست في الجاهل، بل في من يتبعه، في أولئك الذين يُصفّقون له، فقط لأنه يتحدث بلهجة واثقة أو “عندو ستيل خاص”.
الغريب أن هذا “المثقف التيكتوكي” لا يكتفي بالحديث، بل يحكم، ويُصدر فتاوى فكرية، ويقود جيوشًا إلكترونية ضد كل من يخالفه. وكأن المعلومة تنزل عليه وحيًا من اللايفات، أو يُلهمه الخوارزم في خلواته مع خوارزميات التطبيق.
في الحقيقة، كان الأولى أن يُترك العلم لأهله، والتحليل لدارسيه، والكلام لمن يحسن الإنصات أولًا. لأن التطفّل على التخصصات لا يُنتج سوى المهزلة، والمغالطات التي تؤثر على عقول الناس، خاصة من يصدقون كل ما يُقال، فقط لأن القائل لديه متابعون أكثر.
فيا من لا يُفرّق بين الذرة والزرّة، لا حاجة لأن تشرح لنا نظرية الكم. ويا من لا يعرف إعراب “إن الله غفور رحيم”، لا تحاول تأليف دستور دولي لحل النزاعات. اتركوا مساحة للعقل، واتركوا النقاش لمن يملكون أدواته، حتى لا يصبح الجهل مرجعًا، والغباء عقيدة.