في عصرٍ أصبح فيه لقب “مؤثّر” يُمنَح لأي شخص يملك كاميرا وجرعة زائدة من الجرأة، وُلد نوع جديد من الكائنات الرقمية: المؤثِّر الذي فقد تأثيره. نعم، ذاك الذي كان ذات يوم يدوّي صوته في الفضاء الرقمي وكأن كلماته قرارات أممية، لكنه اليوم يتخبّط بين بثٍّ مباشر وآخر، يصرخ في الفراغ، يسبّ الهواء، ويخوّن كل من لا يصفق له.
هذا المؤثّر، الذي فقد صوابه قبل أن يفقد قاعدته الجماهيرية، يعيش الآن بين جدران شاحنته – منزله المتنقّل، أو “قصره الرئاسي على العجلات” كما يحب أن يسوّقه – وبين جلسات لايف مطوّلة على تيك توك، يخوض فيها معاركه الوهمية ضد كل من لا يبارك خطواته ولا يمسح له عرق العظمة.
يبدأ بثّه كالعادة بكلمات وطنية “كبيرة”، يرفع فيها راية القضية الوطنية حتى تظن أنك في اجتماع مجلس الأمن، ثم سرعان ما تنقلب الجلسة إلى سوق شتائم مفتوح، يُوزّع فيه التهم، ويُنصِّب نفسه قاضياً وجلاداً في آنٍ واحد. من يختلف معه؟ عميل. من يناقشه؟ خائن. من يتجاهله؟ حاقد. باختصار، لا وجود لرمادية اللون في عقله، إما معه أو ضده.
ولأن التأثير الحقيقي بات شيئًا من الماضي، لجأ هذا “المُخلوع من عرش التأثير” إلى مهاجمة كل منصة هادفة، منصات تحاول فتح نقاشات مجتمعية، ثقافية، تنموية… فيأتي هو بكل ثقله الرقمي، لا ليضيف، بل ليخرب. يجرّ من خلفه جيوشًا من المتابعين الذين لا يفرقون بين حرية التعبير والتحريض، ينسقون هجماتهم عبر منصات أشبه بخلايا رقمية سرّية، ترفع شعار “خالف تُخوَّن”.
إنه رجل يعيش في لايف دائم، لكنه غائب تمامًا عن الواقع. يظن أن القضية الوطنية حكرٌ عليه، وأن الوطنية تُقاس بعدد الشتائم التي يطلقها على من يجرؤ على قول “أنا لا أتفق معك”. والأدهى؟ أنه كلما طُلب منه الدليل، رفع صوته أكثر وكأن الرفع يغني عن البرهان.
هل نلومه؟ ربما. هل نلوم من لا يزال يصدّقه؟ قطعًا. لأن الحقيقة المرة أن بعضهم لا يبحث عن وعي، بل عن عرض مسرحي، والممثل الجاهز دوماً هو ذلك “المؤثر السابق” الذي لم يبقَ له سوى لعن المنصات الهادفة، والتشهير بأصحاب الرأي، وكأن الرسالة الحقيقية لأي محتوى ناجح هي أن يُسكت، لا أن يُفهم.
في النهاية، نقول له:
أيها المؤثِّر الذي ضل الطريق، اعلم أن الوطنية لا تعني أن تملك الميكروفون وحدك، ولا أن تسبّ كل من لا يغنّي على لحنك. الوطنية فكر، نقاش، وحب حقيقي لهذا الوطن… لا مجرد لايفات مصوغة على إيقاع الشتائم!