الجزائر تنسحب في اللحظة الأخيرة من مناورات “الأسد الإفريقي”: ارتباك استراتيجي أم حسابات متضاربة؟
بوشعيب البازي
في خطوة مفاجئة، انسحبت الجزائر في اللحظة الأخيرة من المرحلة التونسية لمناورات “الأسد الإفريقي” 2025، بعدما كانت قد أعلنت مسبقاً مشاركتها بصفة مراقب. هذا القرار، الذي أُبلغ به قبل أقل من 24 ساعة من بدء المناورات، يُسلط الضوء مجدداً على حالة التذبذب التي تطبع السياسة الخارجية الجزائرية في المرحلة الراهنة.
موقع “ميناديفانس”، المقرب من المؤسسة العسكرية الجزائرية، كان قد كشف يوم السبت عن مشاركة الجزائر في هذه المرحلة من التمرين العسكري الأضخم في القارة الإفريقية، بمراقب عسكري ضمن وفد من ست دول أخرى، إلا أن الإعلان سُحب لاحقاً دون تفسير رسمي.
بين موسكو وواشنطن: الجزائر في مفترق طرق
هذا الانسحاب يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول طبيعة الخيارات الاستراتيجية التي تعتمدها الجزائر حالياً، في وقت تحاول فيه التوفيق بين تحالفاتها التقليدية، وعلى رأسها موسكو، ومحاولاتها الأخيرة للاقتراب من واشنطن. ويبدو أن هذا التوازن الدقيق يزداد هشاشة مع كل قرار.
المشاركة في مناورات تُنظمها الولايات المتحدة في محيط إقليمي حساس، وفي ظل توتر العلاقات مع الجارة المغرب، كانت ستُعد مؤشراً واضحاً على انفتاح الجزائر على شراكة دفاعية جديدة مع الغرب. إلا أن التراجع في اللحظة الأخيرة يعكس ارتباكاً في تحديد الاتجاه الجيوسياسي، خاصة بعد التصريحات اللافتة للسفير الجزائري في واشنطن، صبري بوقادوم، الذي لمّح إلى إمكانية التحول من الاعتماد الكامل على التسليح الروسي إلى التعاون العسكري الأميركي.
هذا التحول الطموح تُوّج بمذكرة تفاهم عسكرية وُقعت في يناير الماضي بين قائد “أفريكوم” مايكل لانغلي ورئيس الأركان الجزائري سعيد شنقريحة، وشكّلت نقطة تحوّل في العلاقة الدفاعية الثنائية. لكن التردد الجزائري الأخير يُشير إلى أن الطموحات لا تزال تصطدم بواقع التحالفات السابقة، والقلق من ردود فعل روسية محتملة.
الانسحاب مناوراتي أم مبدئي؟
تُرجّح بعض التحليلات أن يكون تراجع الجزائر عن المشاركة راجعاً إلى عدم رغبتها في تأزيم علاقتها مع روسيا، خاصة في ظل التوترات الإقليمية في الساحل والصحراء، حيث تتقاطع المصالح الروسية والجزائرية، خصوصاً في الملف المالي.
في المقابل، فإن التبريرات غير الرسمية التي أُشيعت حول وجود إسرائيلي ضمن الدول المشاركة لا تصمد أمام المعطيات: المرحلة التونسية من المناورات لم تشمل إسرائيل، بل اقتصرت على ثماني دول، بينها مصر، ليبيا، وتونس، إلى جانب الولايات المتحدة، وهو ما يُضعف هذا التبرير ويزيد من الغموض حول دوافع التراجع.
فرنسا أيضاً في مرمى التخبط الجزائري
الارتباك في السياسة الخارجية الجزائرية لا يقتصر على علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا. فبعد أشهر من الجمود بسبب الاعتراف الفرنسي بسيادة المغرب على الصحراء، وما تبعه من توتر دبلوماسي، كان يُتوقع أن تعود العلاقات بين باريس والجزائر تدريجياً إلى مسارها الطبيعي.
غير أن قرار الجزائر الأخير بطرد 12 موظفاً تابعاً للسفارة الفرنسية، بحسب ما أعلنه وزير الدولة الفرنسي المكلف بأوروبا، جان نويل بارو، جاء ليُعيد التوتر إلى الواجهة. هذا القرار، الذي لم يترافق مع أي توضيح جزائري رسمي، يتناقض مع بوادر التهدئة التي ظهرت في الآونة الأخيرة، ويُبرز مجدداً غياب الاتساق في الرؤية الدبلوماسية الجزائرية.
في ظل غياب استراتيجية واضحة: إلى أين تتجه الجزائر؟
الواقع الحالي يُظهر بوضوح أن الجزائر تُواجه صعوبة متزايدة في رسم مسار ثابت لسياستها الخارجية. بين الرغبة في الحفاظ على شراكتها التقليدية مع روسيا، والسعي للانفتاح على الولايات المتحدة، وبين محاولات التقارب المتعثر مع فرنسا، يبدو أن صناع القرار في الجزائر لم ينجحوا بعد في صياغة خارطة طريق متماسكة.
وإن كانت هذه المواقف لا تُهدد الاستقرار الداخلي على المدى القصير، إلا أن استمرار حالة التخبط قد يُفقد الجزائر مكانتها التقليدية كفاعل إقليمي متوازن، ويُعمّق عزلتها في بيئة دولية متغيرة وسريعة التحول.
لحظة مراجعة أم استمرار في النهج؟
يبقى السؤال مفتوحاً: هل يُمثّل هذا الانسحاب لحظة تأمل في خيارات الجزائر الجيوسياسية، أم أنه مجرد حلقة جديدة في سلسلة من التناقضات؟ في كلتا الحالتين، فإن المرحلة المقبلة ستتطلب من الجزائر حسم توجهاتها بوضوح، لتفادي المزيد من الإرباك في علاقاتها الدولية.