لم أكن أعلم أنني أخسر نفسي يومًا بعد يوم.
لم أكن أدرك أنني أتنازل عن أثمن ما أملك مقابل لحظات عابرة، وضحكات مصطنعة، وأحاديث لا طائل منها. سنوات طويلة قضيتها أمام شاشة صغيرة، أتنقل من فيديو إلى آخر، أبحر في مشكلات غيري، وأهمل مشكلاتي التي كانت تكبر بصمت داخلي.
كبرت الشروخ بيني وبين عائلتي، وأنا غافل ،ابتعد أطفالي عني، وأنا أظن أنني قريب.
نسيت دفء الأحاديث العائلية، ورائحة القهوة مع الأصدقاء، ومشاوير المساء المليئة بالضحكات الحقيقية. نسيت أن للحياة نبضًا لا تحمله الشاشات.
استيقظت على فاجعة فقدان أعز أصدقائي، ذاك الذي كان لي وطنًا وسندًا في عز وحدتي. كنت منشغلًا وقتها بأسماء مستعارة على تيك توك، أجادل، أحلل، أفسر، أبرر، أهرب من حياتي إلى حياة الآخرين.
رحل صديقي، دون وداع، دون أن أمسك بيده، دون أن أقول له كم أحبه. ورحل جزء مني معه.
حينها فقط، شعرت بثقل الخسارة.
بكيت كما لم أبكِ من قبل.
بكيت على صداقات ضيعتها، على وجوه نسيتها، على أحضان حقيقية استبدلتها بتعليقات إلكترونية باردة.
بكيت على أبنائي الذين كبروا وأنا ألهو بعيدًا عنهم، على قصصهم الصغيرة التي فاتتني، على ضحكاتهم الأولى وخطواتهم الأولى وأنا مشغول بمشاهد تافهة لا تعني شيئًا.
كانت حياتي تسير في طريق مظلم، وأنا أظن أنني في قمة التواصل مع العالم ، كل يوم مشكلة جديدة، كل ساعة خبر جديد، كل لحظة نقاش عقيم لا ينتهي ، نسيت نفسي، نسيت أحلامي، نسيت أن للعمر نهاية.
نسيت أن للشيب الذي بدأ يغزو رأسي حكاية، وأن لتجاعيد وجهي سببًا اسمه الحزن والخذلان والوحدة.
مرت سنوات وأنا أعيش على هامش الحياة ، سنوات وأنا ألاحق أضواءً زائفة، وصداقات وهمية، وحكايات لا تساوي دمعة حقيقية.
مرت سنوات دون أن أرى غروب الشمس بهدوء، دون أن أحتسي قهوتي مع أمي، دون أن أمشي على شاطئ البحر مع أطفالي ، ضيعت أجمل سنين عمري، ضيعت نفسي.
اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، أشعر بندم لا تطفئه كل بحار الدنيا.
أشعر بوحدة ثقيلة، وألم عميق في قلبي لا تداويه اعتذارات ولا دموع.
كل دقيقة ضاعت لن تعود، كل لحظة أهملتها كانت كنزًا دفنته بيدي.
كم من اللحظات الجميلة سرقتها مني تلك المنصات؟
كم من الحب خسرته وأنا أبحث عن الاهتمام من غرباء لا يعرفونني؟
كم من الحكايات الجميلة فاتتني لأنني كنت مشغولًا بسرد حكايات فارغة؟
اليوم فقط فهمت أن السعادة كانت قريبة، أقرب مما تصورت ، كانت في نظرة أمي، وضحكة أطفالي، وصمت المساء في بيتنا الصغير، وبين الأصدقاء الحقيقيين الذين لا يبدلونك بشيء.
ولكن، للأسف، أدركت ذلك بعد أن خسرّت الكثير، بعد أن شاب شعري، وغابت نضارة وجهي، وأدركت أن الحياة لا تنتظر أحدًا.اليوم، أعلنها صرخة من قلبي: وداعًا تيك توك، وداعًا للأوهام ،سأعود إلى نفسي، إلى من يحبونني، إلى حياتي التي تستحق أن تعاش بصدق لا عبر شاشة باردة ، سأحب أبنائي كما يجب، سأكون مع عائلتي بقلب حاضر، لا بجسد غائب، سأعيش كل لحظة وكأنها الأخيرة، لأنني أدركت أخيرًا أن العمر لا يحتمل كل هذا الهدر