لا تزال نتائج زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى الجزائر يلفها الغموض، وسط تكتم شديد من الطرفين الجزائري والفرنسي، رغم الإعلان عن الاتفاق على طي صفحة الأزمة وفتح مسار جديد للعلاقات الثنائية. هذا التكتّم، وإن بدا ظاهريًا دليلا على الرغبة في حماية مسار المصالحة من تأثير الخطابات المتطرفة في كلا البلدين، إلا أنه يعكس أيضًا مؤشرات على خلافات عالقة برزت رغم أجواء التفاؤل التي سبقت الزيارة.
وزير الخارجية الفرنسي، وبعد لقائه مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أكد اتفاق الطرفين على “مواصلة الحوار والتعاون الشامل”، لكنه تجنب الخوض في تفاصيل النتائج المحققة، ما أعطى انطباعًا بأن مهمة ترميم العلاقات، التي شهدت قطيعة امتدت نحو ثمانية أشهر، لم تسر بسلاسة كاملة، على عكس ما أوحى به البيان المشترك الصادر عن الرئيسين تبون وماكرون مطلع الشهر الجاري.
تصريحات بارو حول “فتح صفحة جديدة في علاقات ندية” بين باريس والجزائر توحي بأن الملفات العالقة، التي أججت الأزمة خلال الأشهر الماضية، مثل قضايا الهجرة، التعاون الأمني والقضائي، وعودة المؤسسات الفرنسية إلى السوق الجزائرية، قد جرت معالجتها مبدئيًا، وإن لم يتم الإعلان عن التفاصيل بعد.
غير أن ملامح التوتر التي طبعت وجوه أعضاء الوفدين خلال الاجتماعات عكست أن المصالحة لم تخلُ من صعوبات. بارو، الذي شدد في تصريحات سابقة أمام الجمعية العامة الفرنسية على أن عودة العلاقات يجب أن تكون “بحزم ودون تهاون”، أعاد التأكيد بعد لقائه بتبون ووزير الخارجية أحمد عطاف على الرغبة المشتركة في “رفع الستار” واستعادة الحوار الشامل.
وعلى الرغم من حديثه عن وعود جزائرية بمنح الشركات الفرنسية، بما فيها العاملة في القطاع الزراعي، قوة دفع جديدة، في إشارة إلى تضرر المصالح الفرنسية جراء القطيعة التجارية غير المعلنة خلال الفترة الماضية، غابت عن تصريحاته ملفات حساسة أخرى مثل قضية الكاتب الفرانكوجزائري بوعلام صنصال، ولوائح المهاجرين الجزائريين المطلوب ترحيلهم من فرنسا، والتعاون الأمني والاستخباراتي. هذا الغياب يطرح احتمالين: إما تفادي الخوض في التفاصيل لتجنيب الحوار تأثير الخطابات المتطرفة، أو ظهور خلافات حقيقية ما زالت تعيق تحقيق انفراجة كاملة.
في السياق ذاته، يظل القرار القضائي الفرنسي الأخير بعدم تسليم وزير الصناعة الجزائري السابق عبد السلام بوشوارب، المطلوب بتهم الفساد، رمزًا للتباينات العميقة بين الطرفين، إلى جانب ملفات أخرى تخص معارضين محسوبين على تيارات معادية للنظام الجزائري.
ورغم كل ذلك، تشير بعض المؤشرات إلى أن قنوات الاتصال غير المعلنة بين الطرفين ظلت مفتوحة، وتم عبرها ترتيب أولويات المرحلة المقبلة، وفق البيان المشترك الذي صدر مطلع الشهر الجاري. وتباشر اللجنة المختلطة المكلفة بملف التاريخ والذاكرة المشتركة اجتماعاتها في باريس، وسط تأكيد رئيس الوفد الجزائري لحسن زغيدي أن المهمة تقتصر على استرجاع الأرشيف الوطني، بعيدًا عن أي نقاشات سياسية.
مصدر دبلوماسي فرنسي أكد أن المحادثات مع عطاف كانت “معمقة وصريحة وبناءة”، وشملت القضايا الإقليمية والعلاقات الثنائية، مع التركيز خصوصًا على ملف الهجرة، الذي تسعى فرنسا إلى تحريكه بعد أشهر من الجمود.
ويرى مراقبون أن الزيارة تمثل خطوة لتحديد جدول عمل ثنائي أكثر وضوحًا وطموحًا، رغم أن الطريق لا تزال محفوفة بعراقيل عديدة، أبرزها مسألة الهجرة وقضايا الأمن والقضاء، فضلًا عن الخلافات المرتبطة بالموقف الفرنسي من قضية الصحراء المغربية، الذي كان أحد أسباب تأزم العلاقات الصيف الماضي.
وفيما تبذل باريس جهودًا لإقناع الجزائر بتسهيل ترحيل مهاجرين غير نظاميين عبر تسريع إصدار جوازات المرور القنصلية، تبقى عودة العلاقات إلى طبيعتها مرهونة بمدى قدرة الطرفين على تجاوز الملفات الخلافية العميقة، وبإرادتهما في بناء شراكة تقوم على الندية والاحترام المتبادل، بدلًا من حسابات ظرفية لا تصمد أمام أول اختبار سياسي أو أمني.