فرنسا بين الجزائر والمغرب: إعادة التموضع في مغرب عربي متغير

يوسف الفرج

أثارت المكالمة الهاتفية الأخيرة بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبدالمجيد تبون، التي جرت في 31 مارس 2025، اهتماماً واسعاً في الأوساط السياسية والدبلوماسية. ولم يقتصر هذا الاهتمام على محاولة تهدئة التوترات بين باريس والجزائر، بل امتد ليشمل انعكاسات هذه الخطوة المحتملة على مستقبل العلاقات الفرنسية المغربية وعلى التوازنات الجيوسياسية في منطقة المغرب العربي.

فالعلاقات الفرنسية الجزائرية كانت قد شهدت تدهوراً ملحوظاً خلال العامين الماضيين، نتيجة تراكمات تاريخية وسياسية معقدة. أبرز هذه الأزمات كان تصريح ماكرون في عام 2021 الذي شكك فيه بوجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي. أضيفت إلى ذلك ملفات حساسة مثل قضية الذاكرة الاستعمارية والهجرة والتأشيرات، فضلاً عن دعم باريس المتزايد -أولاً بشكل غير مباشر ثم صراحةً- لمبادرة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء، مما اعتبرته الجزائر انحيازاً سافراً ضدها. إعلان ماكرون في يوليو 2024 تأييده لسيادة المغرب على الصحراء فاقم الوضع، وأدى إلى تجميد الجزائر لعدة أوجه من التعاون مع فرنسا، خاصة في مجالي الأمن والهجرة.

ومع التحولات الجيوسياسية، لا سيما أزمة الطاقة العالمية وتراجع الحضور الأوروبي في منطقة الساحل، وجدت فرنسا نفسها مضطرة لمراجعة سياستها تجاه الجزائر، إدراكاً منها لأهمية الجزائر كشريك استراتيجي في مجالي الطاقة والأمن. وفي هذا السياق، جاءت المكالمة الهاتفية بين ماكرون وتبون كمبادرة تكتيكية تهدف إلى إعادة التوازن إلى علاقة باريس بالجزائر. وقد استقبلت الجزائر هذه الخطوة بحذر إيجابي، مع توقعات بعودة تدريجية للتعاون، خاصة في مجالات الهجرة والطاقة والتنسيق الأمني.

في المقابل، كانت العلاقات الفرنسية المغربية تسير في منحى تصاعدي. فقد عرفت زخماً جديداً خلال النصف الثاني من 2024، توج بزيارة رسمية لماكرون إلى الرباط وتوقيع 22 اتفاقية تعاون شملت قطاعات استراتيجية عدة، من البنية التحتية إلى الطاقات المتجددة والتعليم الرقمي. كما أعلنت فرنسا عن استثمارات ضخمة في الصحراء المغربية بقيمة 10 مليارات يورو، في خطوة اعتُبرت بمثابة دعم واضح لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية. زيارة وزيرة الثقافة الفرنسية رشيدة داتي إلى مدينة العيون في فبراير 2025 أكدت هذا التحول، خاصة مع تصريحاتها بأن “فرنسا تعتبر الصحراء جزءاً لا يتجزأ من التراب المغربي”، وهو ما شكل منعطفاً لافتاً في الموقف الفرنسي.

إزاء هذا التحول، تطرح تساؤلات جدية: هل تستطيع فرنسا الحفاظ على توازنها التقليدي بين الجزائر والمغرب، أم أن محاولتها لإرضاء الطرفين محكومة بالميل الواقعي نحو الجزائر في الملفات الأمنية والاقتصادية؟ المغرب، الذي أدرك هذه التحولات، كثف من سياسة تنويع شراكاته الدولية، عبر تعميق علاقاته مع الولايات المتحدة، التي اعترفت بسيادته على الصحراء منذ 2020، ومع الصين التي أصبحت من كبار المستثمرين في مشاريعه التنموية، إضافة إلى تعزيز التعاون مع إسرائيل في إطار اتفاقات أبراهام. هذا التوجه يعبر عن إرادة مغربية للخروج من تحت العباءة الفرنسية التقليدية، والسعي إلى تموقع أكثر استقلالية يخدم مصالحه الوطنية.

في ظل هذه المتغيرات، تجد باريس نفسها في موقف معقد داخل منطقة مغاربية تتغير تحالفاتها وأولوياتها بوتيرة متسارعة. فبينما تحاول فرنسا إعادة ترسيخ حضورها كشريك جنوب المتوسط، تبدو أدواتها التقليدية أقل فاعلية في مواجهة تصاعد نفوذ قوى جديدة، وصعود خطابات السيادة الوطنية، خاصة في المغرب. وإذا كانت المصالحة مع الجزائر قد تمنح باريس مساحة أوسع للتحرك في ملفات الطاقة والهجرة والأمن، فإنها قد تضعف في المقابل من ثقة الرباط بها كشريك موثوق، لا سيما إذا لم تترافق هذه المصالحة بتطمينات واضحة بشأن استمرارية دعمها لقضية الصحراء المغربية.

من جهته، لم يعد المغرب مستعداً لقبول علاقات تفتقر إلى التوازن، بل أصبح يطالب بشراكة تقوم على أسس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، لا على ميراث تاريخي تجاوزه الزمن.

في الخلاصة، مستقبل العلاقات الفرنسية المغربية سيعتمد إلى حد كبير على قدرة باريس على فهم طبيعة التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة، وعلى استعدادها للتكيف مع معطيات جديدة تقوم على السيادة والشراكة الفعلية. وإذا أخفقت فرنسا في هذا التكيف، فإنها تخاطر بأن تجد نفسها مهمشة في منطقة باتت تتغير بمعزل عن حساباتها التقليدية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: