التناقضات السياسية في الجزائر: بين خطاب تبون وواقع السلطة

حنان الفاتحي

أثارت التصريحات الأخيرة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، التي تناول فيها العلاقات المتوترة مع فرنسا وقضية الصحراء المغربية، جدلاً واسعًا حول من يحدد فعليًا توجهات الجزائر في الملفات الخارجية الحساسة. إذ بدا موقف تبون “لينًا” و”مهادنًا”، على عكس الخطاب التصعيدي الذي تبنته الحكومة والبرلمان خلال الأسابيع الماضية، مما يطرح مجددًا تساؤلات حول حدود صلاحياته مقارنة بنفوذ رئيس أركان الجيش، السعيد شنقريحة، الذي يحظى بدعم الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المؤثرة في قرارات الدولة.

تباين في الخطاب: تهدئة أم تصعيد؟

في تصريحاته الأخيرة، اعتبر تبون أن دعم فرنسا لموقف المغرب في قضية الصحراء ليس بالأمر الجديد، مؤكدًا أن “فرنسا تعلم أن الجزائر تعرف ذلك”، كما أشار إلى أن مقترح الحكم الذاتي في الصحراء هو “مبادرة فرنسية”، مضيفًا أن “صداقتها مع المغرب لم تكن يومًا مصدر إزعاج للجزائر”.

غير أن هذا الخطاب المتسامح يتناقض بشكل صارخ مع رد فعل وزارة الخارجية الجزائرية في 30 يوليو 2024، عندما قررت سحب سفيرها من باريس فورًا، احتجاجًا على رسالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الملك محمد السادس، التي عبّرت عن دعم فرنسا لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. آنذاك، وصفت الخارجية الجزائرية موقف باريس بأنه “تأييد صريح للواقع الاستعماري”، متهمة الحكومة الفرنسية بـ”الاستخفاف بالعواقب المترتبة عن هذا القرار”.

موقف متناقض من “الاستفزازات” الفرنسية

تجلى التناقض مرة أخرى عندما تحدث تبون عن زيارة وزيرة الثقافة الفرنسية رشيدة ذاتي ورئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرارد لارشي إلى الأقاليم الجنوبية للمغرب، حيث نفى أن تكون هذه الزيارات “استفزازًا” للجزائر، لكنه وصفها بـ”المزعجة” بالنسبة للأمم المتحدة والشرعية الدولية.

إلا أن هذا التصريح يتعارض مع الموقف الرسمي للخارجية الجزائرية، التي أدانت بشدة زيارة رشيدة ذاتي للصحراء المغربية في بيان رسمي بتاريخ 18 فبراير 2025، معتبرة أنها “مستفزة وخطيرة”. كما أعلن مجلس الأمة الجزائري في 26 فبراير 2025 عن تجميد علاقاته مع مجلس الشيوخ الفرنسي ردًا على زيارة لارشي.

التجاذب بين أجنحة السلطة: من يحكم الجزائر؟

حديث تبون عن “ثقته الكاملة” بوزير الدولة للشؤون الخارجية، أحمد عطاف، الذي يتولى إدارة الأزمة مع فرنسا، يسلط الضوء على الصراع الداخلي بين تيار الرئاسة من جهة، والجهاز العسكري-الأمني من جهة أخرى. فتبون قدم عطاف كدبلوماسي يتمتع بـ”كفاءة عالية”، لكن هذا الموقف لا يتطابق مع سياسات الخارجية الجزائرية التي أصدرت في 6 يوليو 2024 بيانًا اعتبرت فيه الموقف الفرنسي “غير متوقع”، رغم أن تبون نفسه كان على علم به منذ 13 يونيو 2024، وفقًا لما صرح به عطاف لاحقًا.

تُعد السياسة الخارجية أحد أبرز ساحات الصراع بين الأجنحة داخل النظام الجزائري. فالتوتر بين فريق عطاف، الذي تمت ترقيته إلى وزير دولة في حكومة ندير العرباوي الثانية في نوفمبر 2024، وبين جهاز المخابرات العسكرية، الذي كان يقوده الجنرال جبار مهنا قبل اعتقاله في سبتمبر 2024، يعكس الصراع على النفوذ بين المدنيين والعسكريين في إدارة شؤون البلاد.

في تطور لافت، شهدت حكومة العرباوي الثانية تحولًا نوعيًا في دور المؤسسة العسكرية، إذ لم يعد قائد أركان الجيش مجرد نائب لوزير الدفاع (الذي هو رئيس الجمهورية)، بل تم تعيينه رسميًا كـ”وزير منتدب مكلف بالدفاع الوطني”، مما جعله جزءًا من السلطة التنفيذية بشكل علني، في خطوة تعكس زيادة نفوذ الجيش داخل الحكومة.

تعكس التصريحات المتضاربة للرئيس الجزائري التناقضات العميقة داخل نظام الحكم في الجزائر، حيث تبدو القرارات الدبلوماسية خاضعة لتجاذبات بين الرئاسة والجيش والمخابرات. وبينما يسعى تبون إلى إظهار سياسة أكثر مرونة تجاه فرنسا، تستمر الخارجية الجزائرية في تبني مواقف تصعيدية، مما يؤكد أن السلطة الفعلية في البلاد لا تزال منقسمة بين جناحين متنافسين، أحدهما يميل إلى التهدئة، والآخر يفضل التصعيد خدمةً لأجنداته الداخلية والخارجية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: