مرة أخرى، خرج الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في لقائه الإعلامي الدوري، ليقدم رواية جديدة عن “الجزائر المزدهرة”، متجاهلًا الطوابير الطويلة، الأرفف الفارغة، وصنابير المياه التي بالكاد تنقط. مساء السبت 22 مارس 2025، لم يكن اللقاء مخصصًا لطرح حلول جذرية للأزمات المتفاقمة، بل كان محاولة أخرى لمنح الجزائريين جرعة من الوهم والتخدير السياسي.
على مدى أسابيع، ضخّ الإعلام الجزائري دعاية مكثفة حول “الإنجاز التاريخي” لتبون في تدشين خمس محطات لتحلية المياه في خمسة أيام، لكن الرئيس نفسه، وفي لحظة صدق نادرة، اضطر إلى تصحيح الرواية، مؤكدًا أن العدد الحقيقي هو أربع محطات فقط، بينما الخامسة في بجاية لم تكتمل بعد. ورغم هذا التناقض، لم يفقد تبون حماسه، مؤكدًا أنه يخطط لإنشاء ست محطات أخرى، بالإضافة إلى الاعتماد على المياه الجوفية والسدود. لكن هل نسي أن المياه الجوفية تعاني من الجفاف، وأن السدود تفقد مياهها بسبب التبخر أكثر مما تفقدها بسبب الاستهلاك؟ أما نظريته الذهبية حول “ربط السدود”، والتي يتحدث عنها وكأنه مخترعها، فلا تزال حاضرة في كل خطاباته. وفق منطقه، يمكن نقل المياه بين السدود وكأنها بضاعة تُشحَن، متجاهلًا أن الأزمة ليست مشكلة نقل، بل أزمة سوء إدارة وبنية تحتية متهالكة.
في معرض حديثه عن الأمن الغذائي، تحدث تبون عن القمح الصلب وكأنه رمز للهوية الوطنية، مؤكدًا أن الجزائر ستحقق الاكتفاء الذاتي منه في 2025. لكن المفارقة كانت في حديثه عن القمح اللين، الذي وصفه بأنه “دخيل جاء مع الاستعمار”، قبل أن يعود ليؤكد أن استيراده من السوق الدولية ليس مشكلة. بعبارة أخرى، الاستيراد مرفوض كشعار، لكنه مقبول كضرورة، في تناقض صارخ يعكس العشوائية في إدارة الملفات الاقتصادية.
أما أزمة الحليب، التي تُعد مادة أساسية في حياة الجزائريين، فقد قرر تبون تبسيطها لغويًا، معتبرًا أنها مجرد “ثغرة” لا أكثر. لكنه سرعان ما أعلن عن مشروع ضخم مع قطر في ولاية أدرار لإنتاج مسحوق الحليب، متجاهلًا أن إنتاج “البودرة” يحتاج إلى مياه، وهي أزمة قائمة بذاتها في الجزائر! فهل يعتقد تبون أن حل أزمة الحليب يكمن في تعميق أزمة المياه؟
أما ملف اللحوم، فقد لجأ تبون إلى “فتوى اقتصادية” بدلًا من تقديم حلول عملية، مؤكدًا أن على الفلاحين الاكتفاء بالربح القليل بدل بيع الأغنام بأسعار مرتفعة. ولم يتوقف عند هذا الحد، بل اعتبر بيع الخروف بسعر 17 مليون سنتيم “حرامًا”، متوعدًا بسن قوانين صارمة لمنع ذبح إناث الأغنام للحفاظ على الثروة الحيوانية. لكن الحل البديل موجود: استيراد اللحوم من مالي والنيجر بدلًا من أوروبا. وهكذا، يبقى الاستيراد شبحًا حاضرًا في كل أزمة، رغم أن الرئيس يدعي أنه يسعى إلى “الاعتماد على الإنتاج المحلي”.
في مشهد آخر من المغالطات، أكد تبون أن “الجزائري لن يعرف يومًا الجوع”، رغم أن الطوابير الطويلة للحصول على المواد الأساسية أصبحت مشهدًا يوميًا في المدن الجزائرية. ولإضفاء لمسة درامية على حديثه، استشهد بتقرير عن تبذير الجزائريين للخبز، مدعيًا أنهم يرمون أطنانًا منه في القمامة سنويًا، بقيمة 350 مليون دولار. فهل هذا دليل على “الرخاء”؟ أم مجرد محاولة لإلقاء اللوم على المواطن بدل الحكومة؟
وفي محاولة لتجميل صورة الجزائر أمام العالم، قال تبون إن بلاده “بلد الحرية”، مؤكدًا أن حرية التعبير مكفولة، بشرط ألا تشمل “الشتم والتشويه والمساس بالوحدة الوطنية”. لكن الواقع يقول غير ذلك، حيث تمتلئ السجون بالصحفيين والمعارضين، وآخرهم الكاتب الجزائري-الفرنسي بوعلام صنصال، الذي يواجه حكمًا بالسجن لعشر سنوات بسبب تصريحاته الصحفية.
أما على الصعيد الدبلوماسي، فحاول تبون التظاهر بعدم الاكتراث بالتوتر مع فرنسا، رغم أن الجزائر تعيش أزمة غير مسبوقة مع باريس منذ إعلان الأخيرة دعمها لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية. كما برر غيابه عن قمة الجامعة العربية الأخيرة في القاهرة، مدعيًا أنه “لا يحب البصم فقط”، متجاهلًا أن الجزائر تقاطع تلك الاجتماعات منذ عقود دون أي تأثير حقيقي على الساحة العربية أو الدولية.
من خطاب تبون، يتضح أن الرجل يكرر التناقضات نفسها: يرفض الاستيراد لكنه يعتمده كخيار أساسي، يعد بالحوار لكنه يقمع المعارضين، يتحدث عن الحرية بينما يغلق المساحات الإعلامية، يدعي أن الجزائر “مزدهرة”، بينما الواقع يكذب روايته. وهكذا، خرج تبون من لقائه الإعلامي بمجموعة جديدة من الوعود والمفارقات، تاركًا الجزائريين أمام واقع يزداد سوءًا، وسلطة تواصل بيع الأوهام.