رحلة محمد بن عيسى تتوقف بعد مسيرة حافلة بين دروب السياسة والثقافة

ماموني

بعد مسيرة حافلة من العطاء المتواصل ثقافيا وسياسيا ودبلوماسيا، توفي وزير الخارجية المغربي الأسبق محمد بن عيسى، عن عمر يناهز 88 عامًا. شغل عدة مناصب رفيعة، من بينها وزير الخارجية ووزير الثقافة، إضافة إلى منصب سفير المغرب في الولايات المتحدة.

وعلى المستوى المحلي، ترأس بن عيسى مجلس جماعة أصيلة منذ أكثر من 49 عامًا، كما كان نائبًا برلمانيًا وعضوًا في مجلس المستشارين.

تدهورت حالته الصحية في الأشهر الأخيرة، مما أدى إلى غيابه عن مهامه كرئيس للمجلس الجماعي لمدينة أصيلة لأكثر من ثلاثة أشهر. وفي 23 فبراير 2025، نُقل إلى المستشفى العسكري بالرباط بتعليمات ملكية بعد تعرضه لوعكة صحية حرجة.

لقد حرص الأستاذ والوزير محمد بن عيسى على حضور مؤسسة “العرب” لتغطية منتدى أصيلة لسنوات متوالية.

رصدت عن قرب تحركات الراحل بعين المراسل الصحافي والمهتم بالشأن الثقافي والسياسي، كان يتحرك بديناميكية وحضور ذهني مذهل ولا يترك أيّ تفصيل ولو كان صغيرا، تجده مشاركا في الندوات سواء مسيّرا أو متدخلا ومعلقا على قضايا تدخل في مجال اختصاصه ومواكبته، يجذبك بحسن المظهر وحركات الجسم وأسلوبه في الحديث ومنطقه في إدارة مشروعه ومدينته كعمدة ونائب برلمان. كان يجذب كل من اقترب منه محاورا جادا متمكنا من أدواته.

◙ اسم محمد بن عيسى ارتبط بمدينة أصيلة شمال المغرب والتي ولد بين أزقتها عام 1937

سألته يوما هل يمكن أن نرى هذا الصرح الثقافي الذي أنشأته مستمرا دون وجودك، فأطرق متأملا في السؤال وكأنه يستحضر لحظة الوداع الأبدي، ثم أجاب أن استمرار مشروع ثقافي مثل موسم أصيلة لا يحتاج إلى استمرار نفس الأشخاص وإنما هو رهين باستمرار المؤسسة لأنني وضعت المشروع على سكته، واستثمرت في الثقافة بهذه المدينة وأصبح مشروعا للمدينة والوطن.

أثناء الندوات الكبرى يقف على باب مكتبة بندر بن سلطان بشوشا مرحا ومستقبلا ضيوفه وموسعا لهم في مجلسه، وأثناء الاستراحة بين الندوات تجده محاطا بضيوفه السياسيين والدبلوماسيين والمثقفين والفنانين التشكيليين، يأتون من القارات الخمس.

ارتبط اسم محمد بن عيسى بمدينة أصيلة شمال المغرب والتي ولد بين أزقتها عام 1937. أهّله تكوينه الأكاديمي بين أصيلة والعرائش وتطوان وفاس لشغل منصبه كوزير خارجية من أبريل 1999 حتى 15 أكتوبر 2007.

وللتعبير عن شغفه بالثقافة ومجال الاتّصال انتقل إلى مصر لدراسة الصحافة في العام 1961، حاز على منحة لمتابعة دراسته في أميركا، حيث حاز على شهادة بكالوريوس في الصحافة من جامعة مينيسوتا، وبدأ عمله كملحق إعلامي في البعثة المغربية الدائمة إلى الأمم المتحدة، ومن خلال وظيفته كمبعوث إلى الأمم المتحدة، قام بدراسات حول مناطق مختلفة في أفريقيا لتقييم ظروفها التنموية والبيئية وساهم في البحث عن حلول طويلة الأمد لتحسين الظروف المعيشيّة فيها.

ترأس إدارة جريدة البيان التي كانت تصدر في العام 1976 باللغتين العربية والفرنسية، وأصبح عضو المجلس البلدي، ثمّ تمّ انتخابه كنائب في البرلمان المغربي ممثّلاً عن أصيلة. وفي العام 1977، تمّ انتخابه كنائب في البرلمان، وعام 1983، انتُخِبَ كعمدة أصيلة وحافظ على هذا المنصب لمدة 30 عاماً. بين عامي 1985 و1992 تولّى منصب وزير الثقافة، وتمّ تعيينه كسفير لدى الولايات المتحدة بين عامي 1993 و1999.

خرج في أحد حواراته قبل أشهر قليلة من وفاته للحديث عن مهامه الدبلوماسية عندما كان وزيرا للخارجية، قائلا إن “العاهل المغربي هو الذي يصوغ ويحدد معالم عمل الدبلوماسي وعمل الوصي على الشأن الخارجي، ووزير الخارجية المحنك هو الذي يستطيع أن ينفّذ تعليماته بقدر كبير من الحرفية والتوفيق والنجاح، وأن الملك كانت له ثقة كبيرة في ما أقوم به، وأنا كنت دائما وما زلت صادقا مع جلالته، ولا يمكنني أن أوحي إليه بوضع أو بظرف أو بمقولة ليست صحيحة مئة في المئة.”

وأورد بن عيسى أنني “هكذا عشت.. والعمل مع الملك شيق، إذ منذ تولي الملك محمد السادس العرش، ظل متمسكا بسيادته الكاملة، وأن يكون فاصلا في قضاياه كما يراها وفي مصلحته وألا يكون ضيعة لأحد لا شرقا ولا غربا ولا شمالا أو جنوبا”، خالصا إلى أن “كل الدول احترمتنا واعتمدت ذلك في علاقتنا معها؛ بما في ذلك الولايات المتحدة التي جمعتنا بها اتفاقية التجارة الحرة (2004)، وكان المغرب أول دولة أفريقية تعقد اتفاقا من هذا النوع مع أميركا”.

كان الراحل صاحب رؤية ومشروع ثقافي، فقد أسس “جمعية المحيط الثقافية” التي تحولت لاحقًا إلى “مؤسسة منتدى أصيلة”، التي تشرف على مهرجان أصيلة الثقافي الدولي ليصبح منصة دولية للفكر والفن

ارتبط اسم بن عيسى بموسم أصيلة الثقافي الذي كان وجهة لعدد كبير من السياسيين والإعلاميين والمثقفين والشعراء والأكاديميين، حيث استطاع أن يطور هذا المنتدى على مدار أربعين عاما، وكانت آخر محطة له مع هذا المنتدى في أكتوبر الماضي، في الدورة الخريفية الخامسة والأربعين.

◙ الراحل كان صاحب رؤية ومشروع ثقافي، فقد أسس “جمعية المحيط الثقافية” التي تحولت لاحقًا إلى “مؤسسة منتدى أصيلة”

وقبل وفاته أشاد محمد بن عيسى  بالدور الكبير للملك محمد السادس في دعم واستمرار تألق وإشعاع مدينة أصيلة كمنارة ثقافية مغربية تضيء على العالم العربي وأفريقيا، والدور المهم للمؤسسة في مختلف المجالات التي تهم تنمية مدينة أصيلة والثقافة المغربية عموما.

وفي شهادته قال علي بن تميم رئيس مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة، إن بن عيسى كان مهتماً بالهوية الثقافية، وباللغة العربية، وكان يقول “الأمة التي تفقد لغتها تفقد ورقة الهوية،” وقد ظهر هذا الاهتمام في العديد من المبادرات التي تركت أثرا بالغاً في الثقافة العربية، وتحصل بسببها على العديد من التكريمات المستحقة.

وفي رثائه قال الروائي المغربي أحمد المديني “وداعًا محمد بن عيسى الخِلُّ الحبيب الوزير الدبلوماسي المحنك المثقف والفنان الوطني الأصيل أجمعت القلوب على محبته والعقول على تقديره في كل أصقاع الأرض. رحيلك أيها الإنسان الرفيع ورجل الدولة الرجل الكبير خسارة وطنية وعالمية وغيابك لا يُعوّض.”

أما عبدالرحيم العلام، رئيس اتحاد كتاب المغرب، فتحدث عن تعدد صور بن عيسى ، وتنوع حضوره في المشهد العام، وطنيا وعربيا ودوليا، فضلا عن رحابة أفقه الإنساني والرمزي، ما يجعل منه شخصية مبدئية نادرة، أمام ما يشهده عالم اليوم من اهتزاز في القيم والمعتقدات، وتبدل في المفاهيم والقناعات، وتشكيك في الهويات.

وكان بن عيسى، عضوًا في العديد من المؤسسات الفكرية مثل منتدى الفكر العربي، مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية، ومركز البحرين للدراسات الإستراتيجية.

حصل على عدة جوائز، من بينها جائزة الإنجاز في دبلوماسية حل الصراعات وحقوق الإنسان من مؤسسة “كميت”، وهي مؤسسة بطرس بطرس غالي للسلام والمعرفة في مصر عام 2022، وجائزة الشيخ زايد للكتاب عن شخصية العام الثقافية عام 2008، وجائزة رجل السنة الثقافية من مؤسسة الفكر العربي في 2003، وحصل على أوسمة من عدة دول، منها فرنسا، إسبانيا، إيطاليا، اليابان، والبرازيل وتم تكريمه بوسام العرش من درجات مختلفة من قبل الملك الحسن الثاني والملك محمد السادس.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: