أمهات لندن يعزفن عن الإنجاب: قلة خصوبة أم تراجع الرغبة في الأمومة
رسوم الحضانة باهظة الثمن والمخاوف الوجودية بشأن حالة العالم من أسباب تراجع الولادات.
يتخوف مراقبون من إمكانية أن يعيد النقص في عدد الأطفال في العاصمة البريطانية لندن تشكيل المدينة بشكل كبير، حيث هناك إمكانية أن تشهد لندن إغلاق أجنحة الولادة والمدارس مقابل توسع دور الرعاية لاستيعاب كبار السن. وقد أدت رسوم الحضانة باهظة الثمن والمخاوف الوجودية بشأن حالة العالم إلى تراجع الولادات ما جعلها تصنّف خلال الشهر الماضي المدينة الأسرع شيخوخة في بريطانيا.
تعتبر النائبة السابقة عن حزب المحافظين ميريام كيتس أن انخفاض معدلات المواليد يشكل التهديد الشامل للمجتمع البريطاني والغربي بأكمله. فما هي بالضبط هذه المشكلة الوشيكة؟ هل هي صعود الذكاء الاصطناعي؟ التطرف اليميني؟ تغير المناخ؟ لا، إنها حقيقة أن النساء في المملكة المتحدة، وخاصة في لندن، يخترن إنجاب عدد أقل من الأطفال.
وينشأ هذا الوضع، الذي يشار إليه عادة باسم تراجع الولادات، من مجموعة من العوامل، بما في ذلك المخاوف المباشرة مثل رسوم الحضانة باهظة الثمن إلى المزيد من المخاوف الوجودية بشأن حالة العالم. ويمثل انخفاض معدلات المواليد قضية وطنية، بل وعالمية. لكن الانخفاض في لندن واضح بشكل خاص. وتنجب المرأة في المتوسط في لندن الآن 1.35 طفل، مما يشكّل انخفاضا من نسبة 1.74 طفل المسجلة خلال سنة 2013.ويبلغ المعدل الوطني 1.44 طفل.
لندن صُنّفت المدينة الأسرع شيخوخة في بريطانيا، ومن أسباب ذلك عزوف سكانها المتزايد عن إنجاب الأطفال
ويمكن أن يعيد النقص في عدد الأطفال في العاصمة تشكيل المدينة بشكل كبير، ولا نتحدث هنا عن عدد أقل من عربات الأطفال في الشوارع أو عدد أقل من الأطفال الذين يلعبون في الحانات المحلية. وقد تشهد لندن إغلاق أجنحة الولادة والمدارس مقابل توسع دور الرعاية لاستيعاب كبار السن.
وتعتبر العواقب طويلة الأجل على الخدمات العامة هي الأكثر إثارة للقلق. ويتشكل المجتمع مثل مخطط هرمي، حيث تدعم الأجيال الشابة كبار السن. وإذا تقلصت قاعدة الهرم، فسيفرض ذلك ضغوطا هائلة على نظام الرعاية الصحية، وبرامج الرعاية الاجتماعية، ومعاشات التقاعد الحكومية. ويحذر العديد من الخبراء من أنه ما لم تُعالج معضلة الإنجاب، فإن الحياة الحضرية كما نعرفها قد تنهار. وقال الدكتور بول مورلاند مؤلف كتاب “لم يبق أحد: لماذا يحتاج العالم إلى المزيد من الأطفال؟” إنّ “على الحكومة أن تتحرك الآن، وإلا فلن يتمكن المجتمع من التحرك كالمعتاد. الأطفال الذين يولدون اليوم هم الذين ستموّل ضرائبهم رعايتنا الصحية. وسوف يصبحون أطباء وممرضين وعاملين في مجال الرعاية في المستقبل. إذا وجدت شخصا واحدا فقط في سن العمل مقابل كل متقاعد، فستشتعل أزمة المعاشات التقاعدية، ونقص العمالة، وسينهار كل شيء”.
وصُنّفت لندن خلال الشهر الماضي “المدينة الأسرع شيخوخة في بريطانيا،” ومن أسباب ذلك عزوف سكانها المتزايد عن إنجاب الأطفال.
ومن هؤلاء الأشخاص إستر، البالغة من العمر 31 عاما، والمقيمة في ويمبلي (شمال غرب لندن). وتقول “اعتقدت دائما أنني سأزاول تعليمي بالجامعة، وأحصل على وظيفة، ثم أنجب أطفالا. لكن رؤية الأمومة تعطل حياة صديقاتي جعلتني أعيد النظر”.
وأضافت “في الجيل الذي سبقني، أصبح الجميع تقريبا آباء، لكنني أعتقد أن الأشخاص في عمري أصبحوا مترددين، ويبدو الجيل الأصغر مني سنّا أقل اهتماما. أنا وشريكي نحب حياتنا، ونسافر ونتمتع بالكثير من الحرية. لا أستسيغ فكرة التخلي عن هذا وإيقاف مسيرتي المهنية مؤقتا”.
ووفقا لمؤسسة “ريزولوشن” (القرار)، انخفضت معدلات المواليد في لندن بشكل أسرع من بقية أنحاء البلاد منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وفي أكتوبر 2024، أظهرت أرقام مكتب الإحصاءات الوطنية أن 104252 طفلا فقط ولدوا في العاصمة خلال 2023، مما يشكل انخفاضا قدره 2444 عن العام السابق وأدنى رقم منذ 2008. وسجّلت إسلينغتون أدنى معدل خصوبة من أي منطقة (1.01)، يليها تساو بين سودرك وهامرسميث مع فولهام (1.06).
وذكرت آن بيرنغتون، أستاذة الديموغرافيا بجامعة ساوثهامبتون، أن “معدلات الخصوبة كانت أقل في مناطق مثل لندن، حيث تكاليف السكن مرتفعة ونمط السكن أقل ملاءمة للأسر. وينتقل العديد من الطلاب والشباب إلى المناطق الحضرية الكبرى ثم يغادرونها عندما يريدون تأسيس أسرة”.
وليس هذا الاتجاه جديدا، فلماذا انحدرت معدلات المواليد في لندن إلى مستويات منخفضة تاريخيا؟ السكن ورعاية الأطفال هي الأسباب الأكثر وضوحا. وكانا دائما أكثر تكلفة في العاصمة، لكن الوضع ساء بشكل كبير. وينفق الموظفون بدوام كامل في لندن الآن نحو 12 ضعف دخلهم السنوي لشراء منزل، هذا إذا كان بمقدورهم حتى دخول سوق العقارات.
أزمة رعاية الأطفال

رعاية الأطفال هي عامل مهم آخر. وتعدّ تكاليف الحضانة في لندن من بين الأعلى على مستوى العالم، وساهم تدفق المؤسسات الخاصة إلى القطاع في تكثيف الضغط لتحقيق أقصى قدر من الأرباح. ويمكن أن يكلف إرسال طفل إلى حضانة خاصة مثل “إن كلوب” أكثر من ألفي جنيه إسترليني، أي 24 ألف جنيه إسترليني سنويا. وخلص بحث منظمة “برغننت ذان سكروود” في 2022 إلى أن 60 في المئة من حالات الإجهاض حددت تكاليف رعاية الأطفال كعامل مساهم في القرار.
وذكرت جويلي برييرلي، مؤسسة المنظمة، “ليس من المستغرب أن تصل معدلات الخصوبة إلى الحضيض، حيث أصبح إنجاب الأطفال بسرعة ترفا في لندن. ويظهر بحثنا أن ما يقرب من نصف الآباء أصبحوا عالقين في الديون أو اضطروا إلى استخدام المدخرات، بل إن بعضهم يسحب الأموال من معاشاته التقاعدية لتلبية الحاجيات خلال إجازة الأمومة.” وأضافت أن تكاليف السكن، ورعاية الأطفال، وعدم كفاية أجور الأمومة، وارتفاع معدلات الحمل والتمييز في مجال الأمومة، تعني أن إنجاب طفل يعني الخراب المالي بالنسبة إلى الكثيرين. وتابعت “إذا لم نكن حذرين، فسوف يُحرم كثيرون من الأبوة، ولا يستطيع الاقتصاد تحمل ذلك”.
وأظهرت دراسة أجرتها كلية الملك بلندن في 2023 أن واحدا فقط من كل أربعة أشخاص يبلغون من العمر 32 عاما يرغبون في الإنجاب ويحاولون ذلك، مع كون المخاوف المالية المنفر الرئيسي.
وتقول سارة باكلي، وهي متخصصة في العلاقات العامة تبلغ من العمر 29 عاما من لويشام، إن إنجاب طفل من شأنه أن “يؤدي إلى إفلاسها” هي وزوجها. وأضافت أن “تكاليف رعاية الأطفال باهظة، والفواتير سترتفع بشكل كبير بسبب زيادة الماء والتدفئة والكهرباء، وإذا أردت الانتقال إلى منزل مناسب لتربية طفل، فلن أستطيع. لا أتصور أن بإمكان أبناء جيلي في لندن الوصول إلى سلّم العقارات. سأحتاج إلى راتب أعلى بكثير لتوفير حياة مريحة لطفلي، لكن دخلي الحالي بالكاد يغطي حاجتي أنا وزوجي، وأشك في أنه سيرتفع في وقت قريب”.
كما ينخفض معدل الولادات لأن المزيد من الناس يختارون إنجاب طفل واحد فقط. وتنتشر عائلات الطفل الواحد خاصة في لندن، حيث تميل النساء إلى إنجاب الأطفال في مرحلة متقدمة من حياتهن. وأصبح معدل المواليد للنساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 40 و44 سنة في لندن أكثر من ضعف المسجّل في الشمال الشرقي.
كلية الملك بلندن تؤكد أن واحدا من كل أربعة أشخاص يبلغون من العمر 32 عاما يرغبون في الإنجاب ويحاولون ذلك، مع كون المخاوف المالية المنفر الرئيسي
وتعمل سايا إيبيسين، البالغة من العمر 41 عاما، في مجال الاتصالات الطبية وتعيش مع زوجها في هكني. ويبلغ ابنهما من العمر أربع سنوات وقررت عدم إنجاب المزيد من الأطفال. وصرّحت “اخترنا العيش في لندن لأننا نريد تربية طفلنا في بيئة حضرية متنوعة. لكن في المقابل نحن نفتقر إلى عائلة قريبة تدعمنا. نحن نريد أن نكون آباء وأمهات، ولكننا نركز بشدة على حياتنا المهنية. لا يمكنك الحصول على كل شيء، فأنت تختار معاركك، ويعني هذا بالنسبة إلينا إنجاب طفل واحد”.
ويؤدي انخفاض معدل المواليد بالفعل إلى إفراغ أجنحة الولادة والفصول الدراسية. وتدرس هيئة الخدمات الصحية الوطنية حاليا إغلاق وحدات الولادة إما في المستشفى الملكي في هامبستاد أو مستشفى ويتينغتون في أرتشواي بسبب “انخفاض معدل المواليد” في المنطقة. وتظهر البيانات من 2021 إلى 2022 أن نصف أسرة الأطفال في وحدة حديثي الولادة بالمستشفى الملكي في هامبستاد لم تكن مستخدمة في أي يوم من الأيام. ويولد أقل من 50 طفلا سنويا في مركز ولادة إدجوير.
كما تُغلق المدارس، التي غالبا ما تكون قلب المجتمعات، أبوابها. وشمل هذا الاتجاه أربع مدارس في هكني خلال الصيف الماضي، كما أن ست مدارس أخرى معرضة لخطر الإغلاق أو الدمج. وشهدت كامدن (مدينة داخلية في منطقة لندن) إغلاق أربع مدارس ابتدائية منذ 2019. وأغلِقت العديد من مدارس سودرك بالفعل، ومن المنتظر أن تنهي 16 مدرسة أخرى نشاطها أيضا. ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه، حيث تتوقع السلطات المحلية في لندن انخفاضا إضافيا قدره 52 ألف تلميذ في المدارس الابتدائية بحلول سنة 2028.
ويعتبر أندرو داير، وهو مدرس وأمين فرع الاتحاد الوطني للتعليم في كامدن، “الوضع في نقطة الأزمة. فهو يصوّر ما قد تبدو عليه كامدن والأحياء المركزية الأخرى في المستقبل، والصورة قاتمة. كانت المنطقة تشع بالإبداع والحياة والعائلات. ويحذر الناشطون من أن المدينة قد تتحول إلى إحدى مدن الأشباح”.
إصلاح الفجوة

ما الذي يمكن فعله لزيادة معدل المواليد في لندن؟ كان الساسة في المملكة المتحدة تقليديا مترددين في تنفيذ السياسات المناصرة للإنجاب، خشية الاتهامات بالتدخل في حياة الناخبين الخاصة. ويرى العديد من الناشطين وجوب إلغاء السياسات التي تعاقب الأسر، مثل الحد الأقصى للفوائد. وتعتبر برامج مثل خطة جيريمي هانت لتوفير رعاية الأطفال المجانية لمدة 15 أو 30 ساعة خطوة في الاتجاه الصحيح. ولكن الحاجة إلى أنظمة دعم أكثر شمولا تظل قائمة.
ويقترح مورلاند أن المجتمع في حاجة إلى إعادة التفكير في نهجه تجاه الأبوة. وأضاف “نطلب اليوم من الناس الذهاب إلى الجامعة، وبناء مستقبل مهني، ثم النظر في إنجاب الأطفال. ماذا لو شجعنا الناس على إنجاب الأطفال ودعمنا شهاداتهم أو أضفنا دور الحضانة إلى الجامعات؟ ماذا لو قدمت جميع الشركات مرافق مدمجة لرعاية الأطفال دون أيّ تكلفة إضافية على الوالدين؟”
ومع ذلك، تشير الأستاذة بيرنغتون إلى أن السياسات المؤيدة للولادة لا تنجح دائما. وتشهد حتى البلدان التي تتمتع بأنظمة دعم أسري ممتازة، مثل السويد، انخفاضا في معدلات المواليد. وذكرت أن “التدخلات الحكومية، مثل إجازة الولادة مدفوعة الأجر الأطول، وزيادة التمويل لرعاية الأطفال، وتوسيع نطاق علاج الخصوبة في هيئة الخدمات الصحية الوطنية، يمكن أن تساعد. لكن هذه السياسات باهظة الثمن، وتبقى أدلة رفعها لمعدلات الخصوبة الإجمالية محدودة. وغالبا ما تقتصر على تقديم الولادات التي كانت ستحدث بطبيعتها، دون أيّ زيادة في العدد الإجمالي”.
العديد من الخبراء يحذرون من أنه إذا ما لم تُعالج معضلة الإنجاب، فإن الحياة الحضرية كما نعرفها قد تنهار
وقد تحتاج الحكومة بدلا من ذلك إلى التركيز على الحفاظ على صحة السكان المسنين وقدرتهم على العمل لفترة أطول. ومن المقرر بالفعل أن يرتفع سن التقاعد الحكومي إلى 68 عاما بحلول 2044. وقد تتوجه إلى تشجيع الأزواج ذوي الدخل المزدوج دون أطفال على ادخار المزيد حتى يمكن رعايتهم لاحقا في حياتهم. ومن غير المستغرب أن تستثمر القطاعات الخاصة في دور الرعاية، مع ظهور مراكز معيشة فاخرة لكبار السن في المناطق الغنية مثل ريتشموند وهايغيت. ولكن لندن قد تكون أفضل مكان للعيش (بالمقارنة مع المدن الأخرى) إذا استمر تراجع معدل المواليد العالمي. وحسب الكاتب مورلاند، “ستبقى لندن على قيد الحياة، فهي تجذب الشباب دائما”.
وأضاف “أمكن على مدى 50 عاما تعويض انخفاض معدلات المواليد بالهجرة. ولكن مع انخفاض معدلات الخصوبة في دول مثل بولندا، وأيرلندا، بل وحتى الهند، لن تنجح هذه الإستراتيجية لفترة أطول. ستحتاج لندن إلى التنافس لجذب المهاجرين الشباب من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث نجد 70 في المئة من السكان تحت سن الثلاثين مع توقع أن يتضاعف عدد السكان بحلول 2050”.
وتقول إستر إن تحسين أجر الأمومة، والمساعدة في السكن، ورعاية الأطفال بأسعار معقولة قد يدفع الأسر إلى إعادة النظر في قرارها بعدم إنجاب الأطفال. وتعترف قائلة “أتساءل بين الحين والآخر، عندما أرى طفل أحد الأصدقاء، عمّا إذا كنت قد اتخذت القرار الصحيح”.
ويساهم عامل آخر في انخفاض عدد الأطفال في لندن، وهو النزوح الجماعي للعائلات خلال جائحة كوفيد في عامي 2020 و2021. ويغادر لندن في المتوسط طفل واحد دون سن الخامسة لكل 3.5 أشخاص تتراوح أعمارهم بين 30 و45 عاما.
وانتقل كريس هودر وزوجته روبرتا مؤخرا من فورست هيل (جنوب شرق لندن) إلى إيستبورن (شرق ساسكس) مع طفليهما، البالغين من العمر ستة أعوام و11 عاما.
وقال كريس”كنا نعلم أننا لن نتمكن أبدا من شراء منزل في لندن. كانت العديد من العائلات التي نعرفها تغادر أيضا. والتقينا منذ انتقالنا بالعديد من الأشخاص الآخرين القادمين من لندن. نحن نفتقد حياة المدينة، ولكننا كنا في حاجة إلى هذا الاستقرار لعائلتنا. ليس من الصحي أن تصبح لندن مدينة دون أطفال، إنها ستتحول إلى مقبرة”.