في السنوات الأخيرة، أصبح الجدل والصراعات بين المغاربة، سواء في الواقع أو على منصات التواصل الاجتماعي، مشهداً مألوفاً. الكل يدّعي الوطنية، الكل يوزع صكوك التخوين، الكل يريد تربية الآخر وتصحيح مساره، والكل يهدد باللجوء إلى القضاء وكأنه الحل السحري لكل الخلافات. وكأننا أمام مشهد سريالي يعيد إنتاج نفسه بلا نهاية، حيث ينطبق تمامًا المثل المغربي الشهير: “فهم تتسطا”!
الكل وطني… لكن وفق رؤيته الخاصة
المثير للسخرية أن الجميع يرفع شعار الوطنية، لكن كل طرف يفسرها بطريقته. من يختلف معي فهو خائن، ومن يتفق معي فهو وطني نقيّ. وكأن الوطنية أصبحت بطاقة عضوية تمنح لمن يتماشى مع أفكاري، بينما يُنفى عنها كل من يعارضني.
هذا المشهد يعكس أزمة فكرية وثقافية عميقة، حيث لم نعد نفرق بين الاختلاف الذي يُغني الحوار، والتخوين الذي يدمر أي إمكانية للنقاش الهادئ. كيف يمكن لمجتمع أن يتطور إذا كان النقاش فيه لا يُبنى على الأفكار بل على الهويات والاتهامات الجاهزة؟
منصات التواصل الاجتماعي… ساحات حرب مفتوحة
تويتر، فيسبوك، يوتيوب… لم تعد مجرد منصات للنقاش وتبادل الرأي، بل أصبحت حلبات صراع، حيث تُرفع شعارات “الفضح”، “التخوين”، “كشف المستور”، و”الرد الحارق”. الجميع يريد تأديب الجميع، والكل يرى نفسه وصيًا على الحقيقة المطلقة.
وفي كثير من الأحيان، تتحول المشادات الكلامية إلى تهديدات برفع دعاوى قضائية. لكن السؤال: هل كل خلاف فكري أو نقاش حاد يجب أن يُحسم في المحاكم؟ أم أننا فقدنا القدرة على استيعاب أن الخلاف في الرأي طبيعي؟
“فهم تتسطا”… عندما يصبح العقل ضحية الجدل
المشكلة الكبرى أن كل هذه المشاحنات تستهلك طاقة المغاربة في معارك جانبية، بينما تبقى القضايا الحقيقية في الظل. بدل أن نتجادل حول كيفية تحسين التعليم أو الاقتصاد، نقضي ساعات في تصفية الحسابات وإثبات من هو الأكثر وطنية.
في النهاية، يبقى الواقع كما هو، والمشاحنات لا تغيّر شيئًا. وربما الحل ليس في رفع القضايا أو التخوين، بل في استعادة القدرة على الاستماع، التفهم، والتعايش مع الاختلاف. فالوطن لا يحتاج إلى مزايدات، بل إلى وعي ناضج يدرك أن الوطنية ليست في محاربة بعضنا البعض، بل في بناء مستقبل مشترك للجميع.