العلاقات المغربية – البريطانية: تعاون إستراتيجي وشراكة مستدامة

“أُدرُس التاريخ. أُدرُس التاريخ. في التاريخ تَكمن كل أسرار فن الحُكم” بهذه الجملة عبر صديق المغرب الكبير رئيس الوزراء البريطاني الراحل السير وينستون تشرشل عن كيفية الاستعداد لمواجهة تحديات القيادة وفن اتخاذ القرار في الوقت المناسب. فالتاريخ يخبرنا أن العلاقات المغربية – البريطانية تعود إلى بدايات القرن الحادي عشر عندما أرسل جون الأول ملك إنجلترا سنة 1213 أول بعثة دبلوماسية إلى المغرب لإجراء اتصالات مع محمد الناصر الخليفة الرابع في الدولة الموحدية. حيث تعتبر هذه المهمة الدبلوماسية نقطة انطلاق علاقة مثمرة نمت وتقوت على مر القرون.

مرت 800 سنة من العلاقات المغربية – البريطانية تميزت بعدد من الأحداث البارزة، من بينها التحالف الأنجلو – مغربي ضد إسبانيا في عهد الدولة السعدية ومشروع غزو الهند المشترك بين الملكة إليزابيث الأولى والسلطان السعدي المنصور الذهبي، والعلاقات المتميزة بين الإمبراطورية البريطانية والدولة العلوية في عهد السلطان مولاي إسماعيل وسيدي محمد بن عبدالله والحسن الأول، حيث استقبل المغرب سفارات إنجليزية متعددة بمدينة مكناس عاصمة الدولة العلوية ومدينة السلاطين والملوك. فجمعت هذه العلاقات بين العائلتين المالكتين في كل من المملكة المتحدة والمملكة المغربية اللتين تتميزان بتقاليد ملكية عريقة مشتركة. وفي عهد الملكة الراحلة إليزابيث الثانية والعاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني تم تبادل الزيارات بين العاهلين وباقي الأمراء كالزيارة السابقة للأمير تشارلز عندما كان ولياً للعهد والأمير هاري وزوجته إلى المغرب.

ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار العلاقات المغربية – البريطانية واقعًا جيوسياسيًا ملموسًا، وضرورة سياسية وحقيقة تاريخية مركزية في منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط، وكذلك في الواجهة الأطلسية الأفريقية – الأوروبية للفضاء الأطلسي. حيث تلعب العلاقات الإستراتيجية المتجذرة بين المملكتين دوراً محورياً في إرساء وتدعيم ديناميكيات السلام والأمن والتنمية وجهود توطيد الاستقرار العالمي والقاري والإقليمي في سياق دولي معقد يتسم بتعدد المخاطر والتحديات والأزمات وتأثيرها على الأمن البشري بأبعاده المتعددة من خلال التنسيق الدائم والمستمر بين الرباط ولندن في العديد من الملفات الثنائية والخارجية التي تهم البلدين، والتي أكدت عليها مخرجات الدورة الرابعة للحوار الإستراتيجي المغربي – البريطاني والدورة الثانية لمجلس الشراكة لاتفاقية الشراكة بين المملكة المتحدة والمغرب.

العلاقات الإستراتيجية المتجذرة بين المملكتين تلعب دوراً محورياً في إرساء وتدعيم ديناميكيات السلام والأمن والتنمية وجهود توطيد الاستقرار العالمي والقاري والإقليمي

وبشكل خاص البند الثامن من الإعلان المشترك حيث أقرت المملكة المتحدة بالجهود الجادة التي يبذلها المغرب لدفع العملية السياسية من أجل التوصل إلى حل نهائي للنزاع الإقليمي في الصحراء المغربية. وأكد الجانبان في بنود أخرى، بنفس الإعلان، على ضرورة تعزيز الحوار السياسي، وتعميق العلاقات الاقتصادية والتعاون الأمني والعسكري، والنهوض بالروابط الإنسانية والثقافية والعمل وفق رؤية مشتركة مندمجة تهدف إلى إقامة شراكة إستراتيجية راسخة بين البلدين.

بخصوص موقف المملكة المتحدة وأيرلندا الشمالية من الوحدة الترابية للمملكة المغربية، فالمؤكد أنها تظهر توافقاً عاماً مع الموقف المغربي في ما يتعلق بحل قضية الصحراء المغربية. وهذا يبرز في مواقفها السياسية وتصريحات مسؤوليها حيث أن لندن لم تعبر أبداً عن أيّ موقف معادٍ تجاه الرباط في هذا الصدد، سواء عبر التصريحات الرسمية أو خلال المناقشات الدولية في مجلس الأمن وانخراطها الجدي في المبادرات المغربية التي تهم الأمن الإقليمي كمناورات الأسد الأفريقي والتعاون الأمني والاستخباراتي للحد من المخاطر المرتبطة بالإرهاب والتطرف العنيف والهجرة غير الشرعية والجريمة العابرة للقارات.

في أكثر من مناسبة تم رصد تصريحات لمسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة البريطانية تعبّر عن تأكيد دعم بريطانيا الثابت للقرارات الأخيرة الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي يعبّر عن استحسان الأمم المتحدة للجهود المتسقة والموثوقة التي تبذلها المملكة المغربية في سعيها لتسوية النزاع الإقليمي المفتعل في الصحراء المغربية داخل إطار مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية والتي تعتبر الحل الوحيد المطروح الذي يحقق طموحات سكان الأقاليم الجنوبية في التنمية المستدامة والعيش الكريم تحت كنف السيادة المغربية. لتجسد هذه المواقف الالتزام الضمني للمملكة المتحدة بدعم المساعي الدبلوماسية والجهود المشتركة التي تقودها المملكة المغربية والأمم المتحدة في هذا السياق.

وأيضاً تعكس هذه المواقف تمسك المملكة المتحدة الثابت بمبادئ العدالة والسلام والحل السياسي والتفاوضي للنزاعات الدولية، وتعزز الجهود الدبلوماسية المبذولة للتوصل إلى تسوية فعّالة ومستدامة على الصعيد الدولي لهذا النزاع الإقليمي المفتعل. فالمملكة المتحدة تاريخياً لم تعبّر قط عن مواقف معادية للمغرب في المناقشات الدولية المتعلقة بقضية الصحراء المغربية.

وعلى هذا الأساس، الجواب الفضفاض لهاميش فالكونر، وكيل وزارة الدولة البرلماني لشؤون الشرق الأوسط وأفغانستان وباكستان، والمنتمي لحزب العمال البريطاني، حول سؤال طرح في البرلمان البريطاني بخصوص موقف المملكة المتحدة من قضية الصحراء المغربية، يمكننا اعتباره موقفًا سياسيًا لم يعتمد على البعد الإستراتيجي المتميز للعلاقات المغربية – البريطانية، وخاضع لطبيعة التفاعلات السياسية الداخلية في بريطانيا المرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية والتدافع السياسي المشروع، ولا يعبّر بالضرورة عن التوجه العام للفاعل السياسي والاقتصادي في لندن سواء من حزب المحافظين أو حزب العمال. وجدير بالذكر أنه قبل أسبوع تم إطلاق مجموعة “أصدقاء المغرب في حزب العمال البريطاني” (Labour Friends of Morocco)، بهدف المساهمة في جهود تعزيز العلاقات بين المغرب وحزب العمال الذي يقود الحكومة البريطانية.

مرت 800 سنة من العلاقات المغربية – البريطانية تميزت بعدد من الأحداث البارزة

في نفس السياق البرلماني، وباستقراء لوثائق هانسارد (Hansard) وهي السجلات المخصصة لمناقشات مجلس العموم لقضية الصحراء المغربية المنشورة في الموقع الرسمي للبرلمان البريطاني، وبشكل خاص المجلد 755 لجلسة 30 أكتوبر 2022 والمجلد 749 ليوم 8 مايو 2024، نجد توافقًا عامًا ودعمًا كبيرًا من مجموعة من البرلمانيين البريطانيين للطرح المغربي في ما يخص النزاع الإقليمي المفتعل، من خلال قراءة موضوعية لتاريخ الصراع وفهم دقيق لطبيعة تفاعلاته وتقدير موقف رصين ووعي متكامل للجهود الجبارة التي تقوم بها المملكة المغربية لتحويل الأراضي المتنازع عليها في الصحراء المغربية إلى فضاء تنموي إقليمي في موقف سياسي يجسد عمق وإستراتيجية العلاقات المغربية – البريطانية. كما أن القرار المنصف للمحكمة العليا البريطانية عام 2023، تماشيًا مع قرار المحكمة الإدارية في لندن، لعب دورًا حاسمًا في الدفع بالعلاقات بين المملكة المتحدة والمغرب إلى مستويات استثنائية من المطلوب استحضارها في التعاطي مع قضية وجودية لها حضورها الوازن في وجدان الشعب المغربي.

في نفس الموضوع، البروفيسور مارك ويلر، رئيس قسم القانون الدولي والدراسات الدستورية الدولية في جامعة كامبريدج، والذي يعتبر أحد أبرز الأكاديميين في بريطانيا في مجال القانون الدولي وهو أيضا خبير دولي في الوساطة وتسوية النزاعات الدولية في الأمم المتحدة، قدم تقريرًا أكاديميًا بطلب من وزارة الخارجية البريطانية أكد فيه أن الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء المغربية ودعم مقترح الحكم الذاتي من شأنه أن يعززا علاقات المملكة المتحدة بالأقاليم الخارجية للإمبراطورية البريطانية، وبالتالي يعزز الحضور البريطاني في مختلف المسارح الجيوسياسية العالمية، وبشكل خاص في غرب المتوسط وشمال أفريقيا والساحل، حيث توجد الكثير من التهديدات والمخاطر المرتبطة بالأمن القومي البريطاني.

المملكة المغربية من خلال مقاربتها السيادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية للنزاع الإقليمي المفتعل، والتزامها الدائم بقرارات الأمم المتحدة في الموضوع، وفّرت لمختلف دول العالم الدافع الأخلاقي والسياسي والقانوني والمناخ الاقتصادي الملائم والمشجع لاتخاذ مواقف وقرارات دبلوماسية تحترم السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية. وبالتالي، فحكومة المملكة المتحدة من خلال التطورات التي يعرفها الملف بدعم حلفاء كبار لبريطانيا في الحلف الأطلسي وخارج الحلف الأطلسي كالولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وهولندا والإمارات والسعودية ودول أفريقية محورية لسيادة المملكة المغربية على أقاليمها الجنوبية وتثمين مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل تفاوضي نهائي لهذا النزاع، هي اليوم مطالبة بموقف بريطاني متقدم أكثر وضوحًا في قضية الصحراء المغربية يتجه إلى قرار شبيه بالاعتراف الأميركي والفرنسي والإسباني وينتهي بفتح قنصلية بريطانية بالأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية خدمة لمصالحها الاقتصادية في الصحراء المغربية التي تعتبر واحة استقرار إقليمي حبلى بالفرص التنموية الواعدة.

الفاعل السياسي والاقتصادي البريطاني على وعي متقدم بضرورة تطوير العلاقات الاقتصادية وفتح المحفظة الاستثمارية البريطانية أمام الفرص الواعدة التي تقدمها المملكة المغربية

الملاحظ أن الفاعل السياسي والاقتصادي البريطاني على وعي متقدم بضرورة تطوير العلاقات الاقتصادية وفتح المحفظة الاستثمارية البريطانية أمام الفرص الواعدة التي تقدمها المملكة المغربية ونظامها الاقتصادي المتسم بالاستقرار والمرونة والصمود الذي يشكل عامل جذب لرؤوس الأموال البريطانية التي تعتمد على المغرب ليكون بوابة جديدة لعودة بريطانيا إلى أفريقيا.

على مستوى الربط الكهربائي القاري بين بريطانيا والمملكة المغربية، تأمل شركة الطاقة Xlinks لصاحبها السير ديف لويس في توفير 8 في المئة من إمدادات الكهرباء في بريطانيا من خلال كابل بحري بطول 3800 كيلومتر يربط المغرب بالمملكة المتحدة، مما يوفر الطاقة لـ7 ملايين منزل بحلول عام 2030 من خلال مشروع رائد للطاقات المتجددة والخضراء يهم بناء ما يقرب من 12 مليون لوحة شمسية و530 مزرعة رياح على مساحة 960 كيلومترًا مربعًا في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية بتحالف استثماري عملاق مكون من شركة توتال إنرجيز، وصندوق سيادي إماراتي متخصص في الطاقة الخضراء، والذراع الاستثمارية لشركة جنرال إلكتريك، وأوكتوبس إنرجي بالإضافة إلى الفاعل المغربي في مجال الطاقات المتجددة بميزانية تتجاوز 18 مليار جنيه إسترليني.

كما أن التنسيق الأمني والعسكري المغربي – البريطاني جد متقدم في جميع المجالات، حيث تشارك بريطانيا سنويًا بشكل فاعل في مناورات الأسد الأفريقي وتحافظ على علاقات أمنية جد متطورة بين البلدين سواء في مجال مكافحة الهجرة أو محاربة الإرهاب. والمملكة المغربية باعتبارها فاعلًا أساسيًا ومركزيًا في الأمن الإقليمي والقاري والدولي قامت بتطوير آليات استجابة فاعلة لأزمات منطقة الساحل الأفريقي والصحراء الكبرى من خلال تفعيل عدة مشاريع ومبادرات في إطار إستراتيجية التعاون جنوب – جنوب وفق مبدأ رابح – رابح كمشروع الأنبوب الأطلسي – الأفريقي ومسلسل الرباط للدول الأفريقية الأطلسية والمبادرة الملكية الدولية لدول الساحل الأفريقي التي تسمح لدول الساحل بالوصول إلى المحيط الأطلسي وفق مقاربة تشاركية تعتمد على النجاعة والاستدامة والشمول.

عمليًا، السياسة الخارجية للمملكة المتحدة لها ثوابت راسخة تحدد التوجه الدبلوماسي العام لها، وأهمها التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة والالتزام بسياسات حلف شمال الأطلسي الدولية واحترام حقوق الإنسان والاتفاقيات والمعاهدات الدولية متعددة الأطراف. والمملكة المغربية لها تقاطعات إستراتيجية مع السياسة الخارجية البريطانية سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني أو العسكري وفي مجال حقوق الإنسان. وبالتالي، فهناك مؤشرات تدل على أن التطور المنطقي للموقف البريطاني في المرحلة القادمة هو اعتراف بريطاني بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، ولمَ لا افتتاح قنصلية بريطانية في الصحراء المغربية، وهو الأمر الذي تشتغل عليه الدبلوماسية المغربية وفق الرؤية الملكية المتبصرة على مجموعة من المسارات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والقضائية بهدوء إستراتيجي وفهم دقيق لمتطلبات المرحلة، مرتكزة على جدية وواقعية الطرح المغربي لحل النزاع الإقليمي المفتعل الذي يحظى بدعم وإجماع دولي يترجمه النجاح الكبير لإستراتيجية “دبلوماسية القنصليات” في الأقاليم الجنوبية، تعضدها المجهودات الكبيرة التي تقوم بها مختلف المصالح الدبلوماسية والخارجية لفضح الأكاذيب وكشف مسرحيات التضليل والكذب التي تمارسها ميليشيا بوليساريو الإرهابية للتأثير بشكل أخلاقي على مواقف بعض الدول.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: