بين الداخل والخارج، قيادة الجزائر في متاهة
ليس أمام قيادة الجزائر إلا أن تَعْتبر تصريحات لافروف إنْذارا وبقية مواقف أصدقاء المغرب ومن ضمنهم فرنسا إصرارا فتذهب إلى قراءة التحولات الجيوستراتيجية العالمية بالشكل الصحيح.
“روسيا تُساعد المغرب في إيجاد حلٍّ لقضية الصحراء الغربية (..) المغرب بلد صديق. لدينا مشاريع جيّدة معه. نحن ندرك مدى أهمية هذه القضية بالنسبة إلى المغرب. سنحاول المُساعدة بجميع الطرق الممكنة. لكن الحلّ يجب أن يكون مَبْنيا على توافُق مُتبادل. وليس عبر فرض أيّ شيء على أيّ طرف.” الكلام لوزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، خلال مؤتمر صحفي خُصِّص لتقديم حصيلة الدبلوماسية الروسية لسنة 2024 في موسكو.
في الجزائر، وسائل الإعلام تجاهلت ثلثي تلك التصريحات، وأوَّلت ما بقي منها لصالح “المعزوفة” الجزائرية.. لا أحد في الجزائر راقه ما قاله لافروف. ولعلّ الدبلوماسية الجزائرية تُغالب ذاتها حتى لا يصدُر عنها ما يُفيد غضبَها من كلام المسؤول الروسي. تتوالى على القيادة الجزائرية الصدمات الدبلوماسية في مَوْضوع الصحراء، ولن تتحمَّل صعقة من جهة روسيا. يكفي أنَّ لافروف كرَّس الاجتثاث التام لكلمة الاستفتاء – الغالية على الجزائر – من قاموس التعاطي الدولي مع نزاع الصحراء المغربية، وذلك لوَحدِه لن تهضمه قيادة الجزائر، كما لم تهضم عدم إلحاح روسيا في مجلس الأمن على “نوتَة” الاستفتاء. “تقرير المصير”، في حديث لافروف لازمة مبدئية وفضْفاضَة ومَفتوحة على عدَّة خيارات، ومن بينها “الحكم الذاتي”. بل إن “الحكم الذاتي” هو الخيار الأقرب والأجْدى إلى الحل السلمي المتوافق عليه، العادل والدائم، الذي يطلبه مجلس الأمن ولافروف.
الخارجية الروسية بتصريح لافروف، وقبْلا بامتناعاتها (بدل الرفض باستعمال حق الفيتو) في التصويت على قرارات مجلس الأمن الخاصة بنزاع الصحراء، التي تلامِس مقترح الحكم الذاتي، والتي لم تُخف الجزائر غضبها منها، تبدو كأنها تنثر وتحضِّر توابلَ ومُقبِّلات تحوُّلٍ جوهري في انْحيازها للسّعي السلمي المغربي، وفي انْخراطها في القناعة الدّولية التي تتَّسع وتتَّعمق في تبنِّي المُقترح المغربي بالحكم الذاتي لحل نزاع الصحراء. بل إن استعجال حل النزاع، في الظرفية الدولية الراهنة، باتَ يشتد ويتسارع.
روسيا تقول، بلِسان وزير خارجيتها، إنّها “تُدرك مدى أهمية هذه القضية (الصحراء المغربية) بالنسبة إلى المغرب،” وتضيف بأن “المغرب بلد صديق ولديْنا معه مشاريع جيِّدة.” بما يعني أن الكلام المُوَجَّه إلى الجزائر يُبْطل أيَّ مُحاوَلةٍ منها للْمَسِّ بصداقة موسكو مع المغرب أو للتَّشويش على جودة علاقاتها وعلى المشاريع الجيدة بينهما. إنه نوعٌ من لفْت انتباه الجزائر إلى عدم التَّعْويل على موسكو في مباركة أو حتى في غَضِّ الطّرْف، على أيِّ مَسْعى جزائري إلى التَّصعيد مع المغرب. ولا تملك الجزائر أن تُغامِرَ بأيّ تصعيدٍ وهي عزلاء من أيّ سند دولي، وبالأحرى السند الروسي.
◄ الخارجية الروسية بتصريح لافروف وبامتناعاتها في التصويت على قرارات مجلس الأمن الخاصة بنزاع الصحراء التي تلامِس مقترح الحكم الذاتي تنثر توابلَ ومُقبِّلات تحوُّلٍ جوهري في انْحيازها للسّعي السلمي المغربي
وَقْعُ التَّنبيه الروسي على القيادة الجزائرية شديدٌ، وهو يُضاف إلى مَدِّ الانحيازات الدولية الوازنة للمغرب، بكل مُكونات، قضايا، مشاريع وطموحات مغربيته، وفي القلب منها قضية وحدته الترابية. فرنسا، إسبانيا، الولايات المتحدة، ألمانيا، أغلب الدول العربية، عديد الدول الأفريقية (آخرها غانا التي علَّقت علاقاتها مع بوليساريو) دُوَلٌ ذات تأثير من أميركا اللاتينية.. وطبعا الصين وبريطانيا اللتان تُوافقان على قرارات مجلس الأمن بدلالة أنهما مع المسار السلمي، بمعناه المغربي، واللتان تتطلَّعان إلى علاقات إستراتيجية مع المغرب، وهذه اللائحة الدولية ما بين المساندة أو المتفهمة للحق المغربي ليست حصرية.. أتصوَّر القيادة الجزائرية مشدوهة وهي تعاين، يوميا مشهد “لوحة القيادة”، وفيها مجاري التواصل، بخصوص المغرب بينها وبين محيطها الجغرافي والسياسي مُخْتَنَقة أو مُغْلَقة أو موصدة. في فضاء تلك المُعاينة لا بد أن البَرْد شديدٌ على المُنعزل فيه.
قيادة الجزائر ليست غُفلا عمّا حواليها. لكنها تُكابر في عدَم الإقرار بأن حوالي نصف قرْنٍ من مُعاداتها للمغرب بالتشويش الانفصالي ذهبت “غُثَاء”، وانتهت بها إلى هذا الحدِّ من “مُخاصمة” العالم والعزلة السياسية فيه. تلك القيادة لديْها ما يكفي من دِراسات الواقع والتوَقُّعَات بأن “اللُّعبَة” انتهت، وأن المغرب استمات في الدفاع عن حقِّه التَّاريخي في وحدة أراضيه وشعبه. المجتمع الدولي قيْدَ التفعيل النهائي للحل التاريخي للمنازعة الجزائرية حول الصحراء المغربية. مُنازَعة أضاعت للجزائر جُهدَها وصداقاتها وشَغلتْها عن مصلحتها. ولكنها تكابِر حتى لا تبدو مَهزومة، رغم أن الحل المَغربي توَخَّى أن لا تجد الجزائر نفسها في موقع المهزوم. المغربُ اقترح حلاّ تكون كل الأطراف فيه مُنْتَصرة، لذاتها ولحواليْها ومُجتمعة.. مُنتصرة لآفاق واعدة للجميع في المُستقبل.
المُكابَرة الجزائرية ذهبت بها بعيدا في افتعال أزمة مع فرنسا، بسبب المغرب. أطلقت فيضانا من الغضب، ضِمْنه اعْتِقال كاتبٍ فرنسي – جزائري، بسبب تصريحات له تُعطي الحقَّ تاريخيا للمغرب في أراض ألحقها الاستعمار الفرنسي بالأراضي الجزائرية، وذلك مع ما برر به الرئيس الجزائري نفسه عبدالمجيد تبون اعتقال الكاتب. أغضب الجزائر أن يُقِرَّ الرئيس الفرنسي بمَغربية الصحراء وبصوَابية المُقتَرح المغربي للحكم الذاتي. غضبت، لذلك السبب من إسبانيا، ولكنها لم تغضب لأسبابٍ مَصلحية، أبطلت “مبدئيتها”، من الولايات المتحدة مثلا. وستكتمُ لدواع مَصلحية أيضا قلقها من المَيْل الروسي نحو المغرب. مع فرنسا “أرغَتْ” وعادت إلى الإحجام عن “الإزباد”. ردَّت الخارجية الجزائرية أنها لا تريد التصعيد. ملاحظون فسَّروا ذلك بأن “التصعيد” الجزائري، رمى إلى مُحاولة فرملة فرنسا عن اندفاعها مع المغرب، وفي الآن نفسه خَلقُ حالةٍ من “التعبئة الوطنية” ضِدَّ التآمُر الخارجي بإخماد مَدِّ الغضب الشعبي المُتصاعد بعُنوان “مانيش راضي” . وهو المَدُّ القابل للتأجيج تأثّرا بما حدث في سوريا من إسقاط نظامِ حزْبِ البَعْث.
النتيجةُ، هي أنَّ علاقات فرنسا مع المغرب وما تواعدا عليه وما برمجاه، إستراتيجي وماضٍ في النَّفاذ، وأصلا ليس فيه اعتبارٌ للجزائر ولا لما تشاؤه أو لا تشاؤه. والنتيجة الثانية هي أن الغضبَ الشعبي الجزائري له أسبابه الجزائرية الخالصة، من عديد الخَصاصات الاجتماعية والسياسية، ولن تطفِئُه حمَلات التَّخويف بالعدو الخارجي ولا حملات السّبَاب، التي تديرها المُخابَرات الجزائرية، وخاصة بموادٍ موسيقية وسِخة بكلام المواخير ضد المغاربة، من نوع “المروكي سير…”.
ليس أمام قيادة الجزائر إلا أن تَعْتبر تصريحات لافروف إنْذارا، وبقية مواقف أصدقاء المغرب، وضمنهم فرنسا، إصرارا.. فتذهب إلى قراءة التحولات الجيوستراتيجية العالمية بالشكل الصحيح، والتي ترَجِّح حل النزاعات العالمية، الحادَّة والدَّمَوية، الحالية، لتفسح المجال لصراعات عالمية نوعية أقوى، تشغل القوى الدولية المؤثرة، وهنا، نزاع الصحراء في المرصاد العالمي يبدو صغيرا ونشازا ويُشوِّش، فقط، على الصعود القوي للمغرب في الفاعلية الدولية اقتصاديا وإستراتيجيا. وتلك الفاعلية المغربية مَطلوبة، بمستويات مُتعددة ومُتنوعة للعالم بكل الأطراف الفاعلة فيه. من أميركا، من أوروبا، من البلاد العربية، من أفريقيا.. وطبعا من روسيا، ومن الصين. ولا مَناص للجزائر، إن هي أرادت موقعا لها تحت شمس العالم.. من المغرب.