ليس سهلا ولا من قبيل الصدفة أن تصنع علامتك الإقليمية والدولية المميزة بالمصداقية والكلمة المسموعة، في محيط جيوسياسي متغير وغير آمن، مكانة تستطيع من خلالها ترتيب النتائج والتأثير في القرارات وخلق بيئة صالحة للعمل والإنتاج.
ظهر هذا المتغير مع وساطة المملكة المغربية في ملفات إقليمية ودولية، منها إطلاق سراح أربعة مسؤولين فرنسيين متهمين بالتجسس ومعتقلين لمدة عام في بوركينا فاسو، وحدث الأمر بفضل تدخل المغرب الذي لعب دور الوسيط الموثوق عند المسؤولين في بوركينا فاسو، والشريك الإستراتيجي بالنسبة إلى الفرنسيين.
عملية إطلاق سراح المسؤولين الفرنسيين كانت ناجحة بكل المقاييس بعدما أُلقي القبض عليهم في جو مقلق ومشحون لا يزال قائما بين باريس وواغادوغو. عملية تؤشر أولا على المكانة المميزة للمملكة في دول الساحل والصحراء بشكل عام وفي بوركينا فاسو بشكل خاص، وتسلط الضوء على مسار العلاقات بين باريس والرباط. حيث أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن امتنانه للعاهل المغربي الملك محمد السادس في اتصال هاتفي يوم 18 ديسمبر، على دوره في حل هذه القضية الحساسة التي ظلت معلقة لفترة طويلة.
◄ المحاولات الجزائرية العدوانية لا تعدو أن تكون مناوشات لن تنال من المشروع المغربي في أفريقيا والمنطقة المؤسس على معادلة رابح – رابح ودون تدخل سافر في الشؤون الداخلية للدول
المغرب يقوم بأدواره دون تدخل في الشؤون الداخلية لأصدقائه وحلفائه وحتى خصومه يتعامل معهم بمنطق غير انتقامي، ووصفت الخارجية المغربية هذه العملية بالعمل الإنساني الذي تحقق وأصبح ممكنا بفضل “العلاقات الممتازة” بين الملك محمد السادس ورئيس بوركينا فاسو إبراهيم تراوري، فضلا عن العلاقات طويلة الأمد بين المغرب وبوركينا فاسو. وهذا يعني أن المغرب يستثمر على المدى البعيد في العلاقات المتينة والحيوية والمنتجة لكل الأطراف. وأيضا تأتي هذه الوساطة في سياق التقارب بين فرنسا والمغرب، بعد فترة من التوترات الدبلوماسية انتهت في أكتوبر الماضي، عندما قام الرئيس ماكرون بزيارة دولة إلى المغرب، إيذانا بنهاية ثلاث سنوات من الأزمة.
نجاح وساطة المملكة المغربية في هذه الأزمة كان ماثلا من حيث قدرتها على تهدئة التوتر بين باريس وواغادوغو بشكل فعال سواء من حيث توقيت الوساطة الذي جاء بناء على طلب فرنسي بعد انقشاع غيمة التوتر مع المغرب، واستثمار نفوذ الوسيط المغربي ومصلحة واغادوغو في تسهيل إعادة بناء سياستها الخارجية والمضي قدما، على عكس الجزائر التي أدت وساطاتها في ملفات المنطقة إلى تفاقم الأزمات بدل المساهمة في حلها.
لقد سلكت المملكة مسارات ممتازة في الوساطات التي قامت وتقوم بها، نذكر هنا نجاحها في جمع الفرقاء الليبيين الخميس الماضي ببوزنيقة قرب مدينة الدار البيضاء للتداول في الإجراءات التي تمكنهم من تجاوز الأزمة القائمة منذ سنوات، حيث أعلن أعضاء مجلسي النواب والدولة الليبيين عن التوصل إلى اتفاق بشأن المرحلة التمهيدية لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
يبدو أن هناك من لا يروقه الاتفاق فبدأ بشحن الموالين له لإفشاله، حيث خرجت وزارة الخارجية الليبية تقول بضرورة تنسيق نظيرتها معها بشأن أيّ اجتماع مقبل لليبيين على الأرض المغربية، رغم أنه غير مخوّل لها التدخل في أعمال مجلس النواب أو مجلس الدولة بمقتضى القانون، ما يعني أن أيادي الخصوم وصلت إلى بعض المسؤولين في ليبيا لإبقاء الوضع على ما هو عليه لأنه يخدم مصالحهم.
يبنى المغرب إستراتيجية الانفتاح وتنويع العلاقات مع دول المنطقة والعالم، وهذا ما عاد عليه بالنفع السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، وحزم المملكة في قضاياها السيادية وعلى رأسها الصحراء كان محل اقتناع من طرف عدد من القوى الدولية التي اعترفت بسيادة المملكة على صحرائها. ولا يمكن النظر إلى هذه التحولات بمعزل عن العلاقات التاريخية بين المغرب وجيرانه وخصوصا موريتانيا التي عاملها المغرب بمنطق يجمع الإنسانية وحسن الجوار والأخوة والامتياز الاقتصادي والأمني وهو ما كان حاضرا في اللقاء الذي جمع الملك محمد السادس والرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
لقاء القيادة المغربية والموريتانية جاء في هذا الخضم الجيوستراتيجي الذي نتحدث عنه، والرؤية المغربية الشاملة لمستقبل المنطقة، وبالتالي كان للقاء نصيب من الدبلوماسية والصداقة والشراكة الثنائية والمشاريع الاقتصادية الكبرى، وعلى رأسها أنبوب الغاز المغربي – النيجيري الذي سيمر من عدد من الدول الأفريقية ومنها نواكشوط كطريق للطاقة نحو أوروبا، وأيضا مبادرة الأطلسي التي ستكون ورقة تعاون رابحة لكلا الدولتين الواقعتين على المحيط الأطلسي والتي ستفتح الباب أمام دول الساحل ومنها بوركينا فاسو.
◄ عملية إطلاق سراح المسؤولين الفرنسيين كانت ناجحة بعدما أُلقي القبض عليهم في جو مقلق ومشحون لا يزال قائما بين باريس وواغادوغو. عملية تؤشر على المكانة المميزة للمملكة في دول الساحل والصحراء
بالطبع هذا ما لم يعجب الجانب الجزائري الذي يرى في أيّ تقارب بين المغرب وموريتانيا تعطيلا لمشروعها الانفصالي. توتر النظام الجزائري واضح من الأدوار والعلاقات التي ينسجها المغرب مع دول الجوار والمنطقة والعالم، ويرى بعين واحدة الجار المغربي باعتباره دولة صغيرة ذات قدرة محدودة على بناء قوتها الصلبة التقليدية، ولا تستطيع بناء قوتها الناعمة من خلال محاولة موازنة علاقتها مع جميع الأطراف، وهذا دليل على انفصام هذا النظام عن الواقع ولا يريد الاعتراف به.
يخشى نظام الجزائر أن تحذو موريتانيا طريق إسبانيا وواشنطن وفرنسا التي قدمت دعمها لخطة الحكم الذاتي بالصحراء، معتبرة أنها “الأساس الوحيد” الذي يسمح بحل النزاع المستمر منذ ما يقرب من خمسين عاما، وإنهاء تواجد بوليساريو المدعومة ماليا وعسكريا من قبل النظام العسكري الجزائري والذي لا يريد أن تكون نواكشوط على نفس الموجة مغربيا، فقامت بمحاولة ترهيب عسكري عندما اخترقت دورية من حرس الحدود الجزائري الأرض الموريتانية بمبرر مطاردة المنقبين عن الذهب، والذي نعتبره رسالة ترهيب للقيادة الموريتانية بعد التقارب المتنامي مع المملكة.
الجزائر وكما قلنا مرارا لا تزال متأخرة عن الركب وتثق بشكل مضلل في استنتاجاتها البعيدة عن الواقعية وغير المبنية على معطيات راسخة وقوية وصحيحة. فالمغرب نجح في وساطته الأخيرة كما نجح قبلها في وساطات أخرى لأنه عرف كيف يبني علاقاته مع الدول الأفريقية والمجتمع الأفريقي ويعرف جيدا التوازنات الداخلية لكل دولة والنسيج القبلي المؤثر. بالتالي فالتقارب الدبلوماسي الأخير بين المغرب والعديد من البلدان الأفريقية ليس جديدا، وهو ما سهّل عمل الوساطة، ويمكن اعتبار هذا اللقاء بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني دليلا جديدا على موقع المملكة كلاعب رئيسي أفريقيّا ودوليا، والمحاولات الجزائرية العدوانية لا تعدو أن تكون مناوشات لن تنال من المشروع المغربي في أفريقيا والمنطقة المؤسس على معادلة رابح – رابح ودون تدخل سافر في الشؤون الداخلية للدول.