منذ عقود، عانى المغرب من ظاهرة الفساد المستشري في مختلف المجالات، بدءًا من المؤسسات الحكومية وصولاً إلى القطاع الخاص. ورغم الجهود المبذولة في محاربة هذه الظاهرة، لا يزال العديد من المسؤولين والمتنفذين يفلتون من المساءلة، مما يثير تساؤلات عديدة حول فعالية القضاء ومدى استقلاليته في معالجة قضايا الفساد.
في العديد من البلدان، يعتبر الفساد جريمة كبرى، حيث يتم ملاحقة المسؤولين الكبار والمحاسبة على ما يمكن أن يتمثل في اختلاسات أو استغلال للسلطة من أجل المصالح الشخصية. لكن في المغرب، وعلى الرغم من وجود مؤسسات رقابية مثل “المجلس الأعلى للحسابات” و”الهيئة الوطنية للنزاهة”، إلا أن المتابعين والمراقبين لا يتوقفون عن التساؤل: لماذا لا يتم تقديم المسؤولين الذين ثبت تورطهم في قضايا فساد للمحاكمة؟
عندما يتعلق الأمر بالمسؤولين الحكوميين أو السياسيين الكبار، يظهر غالبًا أن المساءلة تصبح قضية معقدة، بل شبه مستحيلة. قد يكون السبب وراء هذا هو “التحالفات السياسية” أو ما يطلق عليه البعض “الحصانة السياسية”، حيث يظل العديد من المسؤولين بعيدين عن المحاكمة أو التحقيقات حتى في حال ثبوت تورطهم في قضايا فساد. في بعض الأحيان، تُعتبر مصالح الكبار بمثابة حماية لهم من أية تداعيات قانونية. وبالتالي، تطرح هذه الظاهرة تساؤلات حول مبدأ “العدالة للجميع”، خاصة عندما يتبين أن الفساد لا يعترف بالطبقات أو المناصب، ولكنه يُحارب بشكل انتقائي.
في إطار هذه الصورة، يبقى السؤال الأهم: أين هو القضاء في هذه المعادلة؟ هل يعقل أن يكون هناك شخص يملك السلطة والمال، وتظل يده بعيدة عن الملاحقة؟ من المعروف أن العديد من القضايا التي تمس بعض المسؤولين يتم “تجميدها” أو وضعها في “الرفوف” (قضية تمويل الامين العام لمجلس الجالية عبد الله بوصوف لمواقع معادية للمغرب)، بينما تسير التحقيقات في قضايا أخرى قد تكون على مستوى الأفراد العاديين بشكل أسرع وأكثر وضوحًا. وبالتالي، نلاحظ أن القوي يساند القوي، في وقت يُترك فيه المواطن البسيط أمام آلة قانونية قد تظل عمياء، بل وأحيانًا غير عادلة.
يتساءل الكثير من المغاربة: أين هو القضاء من هذا الواقع؟ كيف يُعقل أن تكون هناك قضايا فساد تُكشف يوميًا، وبعض المسؤولين الكبار يُقالون عن مناصبهم بسبب شبهات فساد، لكن لا يتم محاسبتهم أمام القضاء؟ هذا قد يثير الشكوك حول وجود قوى خارجية تؤثر على قرارات القضاء، وتمنع المحاسبة الحقيقية.
القضاء، الذي من المفترض أن يكون مرفقًا مستقلاً وملتزمًا بالعدالة، يقع أحيانًا في فخ السياسة والضغط الاجتماعي. في بعض الحالات، يتم التأثير على بعض القضاة أو إقناعهم بالتوقف عن متابعة قضايا حساسة لأسباب غير قانونية، وهو ما يُضعف الثقة في النظام القضائي برمته.
إذا نظرنا إلى واقع المحاكمات في المغرب، نجد أن هناك تفاوتًا كبيرًا في المعاملة القانونية بين الأفراد. في الوقت الذي يتعرض فيه مواطنون عاديون لمتابعات قضائية صارمة بسبب تهم بسيطة، يبقى المسؤولون الكبار في مأمن من المحاسبة رغم تورطهم في قضايا فساد ضخمة. وهذا التفاوت يفتح المجال للحديث عن مفهوم “العدالة الانتقائية” التي يتم تطبيقها على حسب الشخص والطبقة الاجتماعية، وهو أمر يؤدي إلى تفشي ظاهرة انعدام الثقة في المؤسسات الحكومية والقضائية.
في ظل هذا الواقع، أصبح من الضروري أن تتحمل مؤسسات المجتمع المدني دورًا أكبر في كشف الفساد والمطالبة بمحاسبة المسؤولين بغض النظر عن مكانتهم السياسية أو الاجتماعية. كما أن الإصلاحات القانونية تحتاج إلى المزيد من التطوير لضمان استقلالية القضاء وتخليصه من أي تأثيرات خارجية قد تضر بمصداقيته.
في هذا السياق، يرى العديد من الخبراء أنه من الضروري تكثيف جهود مكافحة الفساد على جميع الأصعدة، من خلال تعزيز الشفافية، وتطبيق القوانين بشكل عادل على الجميع دون استثناء. كذلك، يُفترض أن يتم تفعيل آليات محاسبة أكثر قوة وفعالية في مواجهة المفسدين، حتى لا يبقى المواطن المغربي في مواجهة هذا الواقع المتأزم.
من الواضح أن السؤال المطروح اليوم في المغرب هو: هل نعيش في بلد يحترم مبدأ العدالة، أم في مجتمع يتم فيه تفضيل القوى النافذة والمفسدين على حساب البسطاء؟ إن الحل يكمن في تبني مقاربة شاملة تستند إلى تعزيز شفافية العمل الحكومي، استقلال القضاء، وتحقيق المساواة أمام القانون.