أكد العاهل المغربي الملك محمد السادس، في رسالة وجهها الجمعة إلى المشاركين في المناظرة الدولية حول “العدالة الانتقالية” المنعقدة بمقر مجلس النواب، بالرباط، أن قرار إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، “كان قرارا سياديا ضمن مسار طوعي لتدبير الشأن العام، يقوم على مفهوم جديد للسلطة، وعلى مسؤولية المؤسسات ومحاسبتها، لضمان كرامة كل المغاربة، ويهدف أساسا، علاوة على تحقيق المصالحة الوطنية ومعالجة انتهاكات الماضي، إلى جعل العدالة الانتقالية ضمن أولويات خيار الانتقال الديمقراطي.”
وأضاف العاهل المغربي أنه “تبلورت لدى المغاربة حينها، دولة ومجتمعا، رؤية استباقية لعمق التحولات التي دخلها العالم نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ولأهمية القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ضمن الاختيارات السياسية الإستراتيجية”، موضحا أن “هذه العدالة الانتقالية في بلادنا استندت على أسس صلبة، منها التاريخية المرتبطة بخصوصية الشخصية المغربية، ومنها المجالية والجغرافية. وكان هدفها الأساسي الاهتمام بكل الضحايا، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، والانكباب على كل الانتهاكات المرتبطة بحقوق الإنسان، من السنوات الأولى للاستقلال، إلى تاريخ إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة.”
ودشنت هيئة الإنصاف والمصالحة عملها رسميا في يناير 2004 واستغرقت 23 شهرا في التحقيق في حالات الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي، حيث قامت الهيئة بحل 742 قضية إخفاء قسري وقدمت تعويضات مادية لـ9779 ضحية، كما عقدت الهيئة خلال مدة عملها سبع جلسات استماع علنية حية على التلفاز في ستة مناطق لإقرار الحقيقة التاريخية.
واعتبر رشيد لزرق، أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري، أن “تأكيد الملك محمد السادس على أهمية إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة كقرار سيادي يعكس الإرادة الملكية لمعالجة سلبيات الماضي والانفتاح على مستقبل أكثر عدالة وتسامحا، وعمق الالتزام المؤسساتي بحماية حقوق الإنسان وترسيخ قيم المصالحة الوطنية، حيث شكلت هذه الهيئة منعطفا تاريخيا في مسار التعامل مع انتهاكات الماضي وجبر أضرار الضحايا.”
وأوضح أن “هذا القرار السيادي يحمل دلالات عميقة تتجاوز مجرد التعويض المادي إلى إعادة الاعتبار للضحايا وبناء سردية وطنية تقوم على الاعتراف بالظلم والسعي نحو المصالحة الشاملة.”
وقدمت اللجنة تقريرها النهائي للملك محمد السادس في نوفمبر 2005، موصية ببرامج جبر ضرر جماعي في 11 منطقة، كما احتوى التقرير أيضا على توصيات تخص السياسات العامة مع التشديد على الحاجة إلى تعزيز الحماية الدستورية لحقوق الإنسان، وكذلك الحماية القضائية والقانونية.
وتستمر أشغال المناظرة الدولية حول “العدالة الانتقالية”، يومي الجمعة والسبت تحت الرعاية الملكية، تخليدا للذكرى العشرين لإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، ويشارك فيها ثلة من المسؤولين الوطنيين والأجانب، يمثلون الحكومة والبرلمان والقضاء والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان والآليات الوطنية للوقاية من التعذيب، فضلا عن مسؤولين من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني وخبراء وأكاديميين.
تخليد ذكرى إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، يتيح إبراز أحد الإصلاحات الكبرى التي أطلقها الملك محمد السادس على صعيد الحياة المؤسساتية بالمغرب
وأكد السفير عمر زنيبر، الممثل الدائم للمغرب لدى مكتب الأمم المتحدة بجنيف، والرئيس الحالي لمجلس حقوق الإنسان، أن “تخليد ذكرى إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، يتيح إبراز أحد الإصلاحات الكبرى التي أطلقها الملك محمد السادس على صعيد الحياة المؤسساتية بالمغرب”، مؤكدا أن “أحد أسباب تولي المغرب رئاسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة هو رغبته في تقاسم تجربته الطويلة في الإصلاح والتقدم في المجال.”
واعتبرت رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان آمنة بوعياش أن “هيئة الإنصاف والمصالحة واحدة من أبرز المحطات الفاصلة في تاريخنا الراهن، وتجربة نموذجية فريدة ورائدة في سياقاتها ومقارباتها ومقوماتها ودلالاتها.”
وأكدت الرسالة الملكية أن “أحد أكثر الجوانب المميزة للتجربة المغربية، هو انخراط المجتمع المدني، بكل أطيافه، في بلورة وإنجاح العملية، والتأكيد على ضرورة مواصلة ترسيخ أسس دولة القانون، بما يضمن احترام الحقوق والحريات وحمايتها، ويوازن بين الحق في ممارستها، بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، والتقيد بالنهوض بالواجبات”.
وذكر العاهل المغربي بأنه “تسنى من خلال توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، التي طرحت مقترحات همت أيضا السياسات العامة، فضلا عن التشديد على الحاجة إلى تعزيز الحماية الدستورية لحقوق الإنسان، وضع إطار ناظم لإصلاحات مجتمعية واسعة، بما فيها الدستورية والتشريعية، وإنشاء آليات تشاورية ومؤسساتية، بهدف القطع مع انتهاكات الماضي، وترسيخ تدبير عمومي يعتمد قواعد دولة الحق والقانون، وإبراز دينامكيات مجتمعية متجـددة.”
واعتبر المجلس الوطني لحقوق الإنسان أن “قراءة الماضي وتحويله إلى دينامكية بناء المستقبل عملية امتدت من جبر أضرار الضحايا وذوي الحقوق إلى مراجعة الدستور ودسترة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ومن الإنصاف والعدل إلى حفظ الأرشيف والذاكرة وإرساء ضمانات دستورية لعدم التكرار، ومن الحوكمة الأمنية إلى تطور مفهوم الأمن لخدمة حقوق الإنسان وإصلاح القضاء وتأصيل الوقاية من التعذيب.”