المسيرة الخضراء… 49 عاما من تعزيز الوحدة

تعد ذكرى المسيرة الخضراء إحدى المحطات التاريخية الراسخة في مسار استكمال الاستقلال وترسيخ الوحدة الترابية، حيث تأتي ذكرى التاسعة والأربعون محاطة بروح الحماس والتعبئة الدائمة دعما لقضية الوحدة الوطنية، وتجسد هذه الذكرى التلاحم العميق بين المغاربة وأرضهم، رمزا للوحدة وإرادة مشتركة بين الملك والشعب لتحقيق التنمية في الأقاليم الجنوبية، ومع مرور 49 سنة على هذه المسيرة، تظل هذه الذكرى مناسبة لتقييم الإنجازات واستعراض المشاريع الطموحة التي وُجهت لتنمية الأقاليم المسترجعة، بما يشمل تعزيز الاقتصاد، وتحسين البنية التحتية، والارتقاء بمستوى المعيشة في هذه المناطق.
تحل ذكرى المسيرة الخضراء هذه السنة في سياق مميز يتزامن مع تطورات مهمة في قضية الصحراء المغربية، حيث شهدت الأقاليم الجنوبية تقدما كبيرا على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بفضل مسار التنمية الشامل الذي رسخته هذه المسيرة المجيدة. كما يأتي إحياء هذه الذكرى على وقع الاعتراف الفرنسي الأخير بمغربية الصحراء ودعمه لمقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب سنة 2007 تحت السيادة المغربية، وهو اعتراف يضاف إلى سلسلة من المواقف الدولية التي دعمت وحدة الأراضي المغربية، وعلى رأسها الاعتراف الأمريكي الصريح بمغربية الصحراء، والموقف الإسباني الداعم لخطة الحكم الذاتي.
هذا الزخم الدبلوماسي يعكس تحولات إيجابية في الاعتراف الدولي بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية، ويعزز جهود التنمية فيها التي شملت تعزيز البنية التحتية، وتطوير القطاعات الاقتصادية، وتحسين مستوى المعيشة، ليصبح هذا الإقليم نموذجا للتنمية والاستقرار في ظل السيادة المغربية.

عهد مستمر

أكد سعيد العبيدي، باحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية، أن المسيرة الخضراء التي قادها الملك الراحل الحسن الثاني يوم 6 نونبر 1975، شهدت توجه أكثر من 350 ألف مغربي نحو الأقاليم الجنوبية حاملين الأعلام المغربية والمصاحف، في مسيرة سلمية بلا سلاح، تعبيرا عن الرغبة في استعادة الأراضي المحتلة وتأكيد سيادة المغرب على الصحراء. وأضاف أن هذه المسيرة التاريخية أبرزت قدرة المغرب على تعبئة طاقاته الداخلية والدولية لتحقيق استقلاله الكامل. ولم تكن المسيرة مجرد حدث سياسي، بل كانت انطلاقة لرؤية إستراتيجية رسمت مسار التنمية والاستقرار في الأقاليم الجنوبية، وأصبحت رمزا في الذاكرة المغربية، تذكر الجميع بوحدة الصف وقوة الرابط بين الملك والشعب.
وأشار العبيدي إلى أن المسيرة الخضراء وضعت الأسس لخارطة الطريق التي تبناها المغرب لإدارة هذا النزاع المفتعل حول الصحراء، بناء على الواقعية التاريخية والمصداقية السياسية. وأضاف أن الملك محمد السادس واصل عمل الملك الحسن الثاني من خلال الانفتاح على الآخر وتقديم الأدلة والحجج القوية، وتحويل المسيرة الخضراء من رمزها التحريري إلى طابعها الحداثي، الذي أسهم في إنهاء الجدل حول مغربية الصحراء وإقناع مختلف الفاعلين الدوليين بمصداقية الطرح المغربي، خاصة على مستوى مجلس الأمن واللجنة الرابعة وشركاء المغرب.
وذكر العبيدي أن المغرب نجح في تغيير المقاربة الأممية عبر إقناع العديد من الدول بواقعية وجدية مقترح الحكم الذاتي، ما أدى إلى تغيير مواقفها وتوسيع دائرة الشركاء الدوليين، والانفتاح على دول القارة الإفريقية، وتوجيه ضربات دبلوماسية قوية للفكرة الانفصالية وللدول الداعمة لها.

المسيرة المستدامة

يرى لحسين بكار السباعي، الباحث في علوم القانون، أن الاحتفاء بذكرى المسيرة الخضراء هو مناسبة لتأمل أهمية هذا الحدث التاريخي ودوره في تغيير واقع الأقاليم الجنوبية، فقد كانت هذه الأقاليم قبل المسيرة الخضراء تتسم بطابع البداوة والعزلة في ظل الحكم الاستعماري، لكن بعد استعادة المغرب لصحرائه، شهدت المنطقة تطورا تنمويا شمل مختلف جوانب الحياة، حيث جرى إدماج سكان الأقاليم الجنوبية في كافة المجالات المدنية والسياسية، مما أسهم في تحقيق اندماج فعلي داخل الوطن.
وأشار السباعي إلى أن الأقاليم الجنوبية أصبحت بفضل الجهود الدبلوماسية المغربية تحظى بمناخ حقوقي متطور وتعددية سياسية ملحوظة، حيث تسجل الانتخابات في هذه المناطق أعلى نسب المشاركة السياسية، هذا الانخراط السياسي يعكس تطور الوعي المدني لدى السكان ويؤكد النجاح في تعزيز ممارسات الديمقراطية في هذه المناطق.
ويرجع السباعي هذا التطور إلى الدبلوماسية الحازمة التي انتهجها المغرب منذ استرجاع صحرائه، والتي واجهت محاولات الانفصال وأكدت على مغربية الصحراء أمام المجتمع الدولي.
وأضاف السباعي، بعد استرجاع الأقاليم الجنوبية، أطلقت الدولة المغربية مشاريع تنموية واسعة تستهدف تحويل هذه المناطق إلى مراكز اقتصادية مزدهرة. وشملت هذه المشاريع تطوير البنية التحتية الأساسية، مثل بناء الطرق، وتطوير الموانئ والمطارات، لتعزيز الربط بين الأقاليم الجنوبية وبقية المدن المغربية.
وتهدف هذه الجهود إلى دعم الأنشطة الاقتصادية في المنطقة، من أجل تحسين مستوى المعيشة للسكان المحليين وتوفير فرص عمل جديدة. ويؤكد السباعي أن هذه المشاريع الاقتصادية تعكس إستراتيجية طويلة الأمد لتحويل الأقاليم الجنوبية إلى مناطق جاذبة للاستثمار ومراكز حيوية تدعم الاقتصاد الوطني، كما أن الاحتفاء بذكرى المسيرة الخضراء ليس مجرد استحضار لماض مجيد، بل هو أيضا فرصة لرؤية الحاضر والمستقبل، حيث تستمر الجهود لتطوير الأقاليم الجنوبية في إطار رؤية تنموية شاملة تعزز وحدة المغرب وتحقق الازدهار لكافة مناطقه.

مسيرة النماء

تعيش الأقاليم الجنوبية المغربية في الفترة الراهنة نهضة تنموية شاملة، حيث أصبحت هذه المنطقة الحيوية محط أنظار العديد من المستثمرين والشركات العالمية التي تسعى للانخراط في مشاريع تسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وانعكست هذه المبادرات بشكل إيجابي على حياة السكان، مما أسهم في توفير آلاف فرص العمل وتعزيز النمو الاقتصادي.

لقد أثبتت هذه المشاريع قدرتها على إحداث تحسن ملحوظ في مؤشرات التنمية البشرية، فالأرقام تتحدث عن زيادة ملحوظة في معدلات الاستهلاك، وتراجع الفقر، ونجاح الجهود المبذولة لتضييق الفجوات الاجتماعية. بفضل إستراتيجيات التنمية المدروسة، استطاعت الأقاليم الجنوبية تحقيق معدلات نمو تتجاوز المعدلات الوطنية، مما يعكس نجاح النموذج التنموي الجديد الذي أطلقه جلالة الملك في 2015.
يشتمل هذا النموذج على تنفيذ حوالي 700 مشروع سوسيو-اقتصادي هيكلي، باستثمار إجمالي يقارب 85 مليار درهم. وهذه المشاريع لا تقتصر على تحسين البنية التحتية فقط، بل تشمل أيضا تطوير قطاعات متعددة مثل الفلاحة، والصيد البحري، والصناعة التقليدية، والصحة، والتعليم العالي. كما تسهم في تعزيز الربط بين الأقاليم الجنوبية وباقي مدن المملكة، مما يعزز من دورها حلقة وصل بين المغرب وإفريقيا.
كما يركز النموذج على حماية الثروات المائية والبحرية وتعزيز الطاقات المتجددة، مما يعكس الرؤية الإستراتيجية للمغرب نحو تنمية مستدامة تحترم البيئة وتضمن الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية. وخلال هذه المشاريع، يتعزز إشعاع الصحراء المغربية مركزا اقتصاديا حيويا، ويتعزز دورها قطبا تنافسيا في المنطقة.
علاوة على ذلك، أدت هذه المشاريع إلى بلورة التزامات المغرب تجاه القارة الإفريقية، مما ساهم في ترجمة أكثر من ألف اتفاقية تعاون مع الدول الإفريقية الشقيقة إلى واقع ملموس.
المشاريع الكبرى التي تمت بلورتها في الأقاليم الجنوبية، تعكس تنوع المجالات التي تشملها، بدءا من الفلاحة والصيد البحري، والسقي، والمجالات الرعوية، والماء الصالح للشرب، والتطهير السائل، والكهرباء، والصحة، والثقافة، والتجهيز من موانئ، وطريق مزدوج، ومطارات، إلى جانب الصناعة التقليدية، والاقتصاد التضامني، والتعليم العالي، والفوسفاط، مما يضمن أن تنعكس هذه التطورات على جميع مجالات الحياة.
وإلى جانب المشاريع الهيكلية، تسعى المملكة إلى تعزيز آليات التمويل المبتكرة، مما يمكنها من تحقيق أهدافها التنموية بكفاءة وفعالية. هذا التوجه لا يعكس فقط رغبة المغرب في تحقيق التنمية الداخلية، بل يؤكد أيضا التزامه بالانفتاح على الآخر وتوسيع شبكة التعاون مع الدول الإفريقية.
وتعيش الأقاليم الجنوبية المغربية مرحلة تاريخية من التطور والنمو، فالاستثمار في هذه المشاريع لم يعد مجرد خطوات عابرة، بل رؤية إستراتيجية تهدف إلى بناء مستقبل زاهر يعكس طموحات المملكة، نحو تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، لتكون هذه الأقاليم نموذجا يحتذى به في التعاون والتكامل الاقتصادي على المستوى الإقليمي والدولي.

مركز الطاقة المتجددة

أصبحت الأقاليم الجنوبية المغربية مركزا رئيسيا للاستثمارات، لا سيما في مجال الطاقة المتجددة، حيث تتبوأ هذه المناطق مكانة مرموقة عاصمة للهيدروجين الأخضر.

وتمتاز الأقاليم بمشاريع ضخمة للطاقة المتجددة، مما يجعلها رائدة في هذا القطاع، ومن أبرز هذه المشاريع محطة نور للطاقة الشمسية في العيون، التي تعد واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم، تساهم هذه المحطة في توفير الطاقة النظيفة، وتعزيز الاستدامة البيئية في المنطقة.
كما تم تطوير مشاريع طاقة الرياح في بوجدور والداخلة، والتي تعكس التوجه نحو استغلال المصادر الطبيعية المتجددة، هذه المشاريع لا تلبي فقط احتياجات المنطقة المتزايدة من الطاقة، بل تساهم أيضا في توفير فرص عمل جديدة وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وتسهم الأقاليم الجنوبية في تحويل المغرب إلى مركز إقليمي للطاقة النظيفة، حيث يعكس هذا التوجه الإستراتيجي التزام المملكة بتعزيز الاقتصاد الأخضر وتقليل انبعاثات الكربون. مع هذه الجهود المستمرة، تضع الأقاليم الجنوبية نفسها على الخارطة العالمية وجهة مفضلة للاستثمارات في مجال الطاقة المتجددة، مما يعزز من مستقبلها محورا حيويا للتنمية المستدامة.

نهضة شاملة للبنية التحتية
استرجاع الصحراء المغربية كان نقطة تحول فارقة للأقاليم الجنوبية، حيث انطلقت فيها مسيرة تنموية نشطة تمثلت في مجموعة من المشاريع، التي عززت البنية التحتية. لم تكن هذه المشاريع مجرد إنجازات عابرة، بل كانت الأساس الذي بنيت عليه آمال تنموية شاملة. فقد أضحت الطرق والموانئ والمطارات عوامل أساسية في دفع عجلة النمو الاقتصادي وتيسير الحياة اليومية للسكان.
وتجسد شبكة الطرق السريعة الجديدة، مثل الطريق السريع بين تيزنيت والداخلة، التزام المغرب بتسهيل الحركة بين الأقاليم الجنوبية وبقية البلاد. أطلق هذا المشروع العنان لتبادل تجاري أكبر وفتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي مع المناطق الأخرى. كما أن تطوير الموانئ، مثل ميناء الداخلة وميناء العيون، ساهم في تحويل هذه الأقاليم إلى بوابات إستراتيجية للتجارة والصيد البحري، فأصبحت تشكل نقاط التقاء بين المغرب والدول الإفريقية، مما يوسع دائرة التأثير الاقتصادي للمغرب في المنطقة.
أما بالنسبة للمطارات، فقد كان لتطوير مطارات العيون والداخلة وكلميم دور كبير في جذب السياح ورجال الأعمال، حيث تحولت هذه المدن إلى وجهات مفضلة. تعكس هذه المشاريع رؤية شاملة تهدف إلى دمج الأقاليم الجنوبية في التنمية الوطنية وتعزيز مكانتها حلقة وصل بين المغرب وإفريقيا.
تم بناء مستشفيات جامعية ومراكز صحية في مدن العيون والداخلة وكلميم، مما حسن من جودة الرعاية الصحية وساهم في تقليل حاجة المواطنين للتنقل إلى المدن الكبرى. كما تم تعزيز التعليم العالي وتوفير التخصصات العلمية والمهنية، التي تخدم المنطقة، من خلال إنشاء المدارس والجامعات، مثل جامعة ابن زهر في العيون.
وبفضل هذه الجهود، تحققت طفرات نوعية في مختلف مجالات الحياة، مما جعل الأقاليم الجنوبية تعيش مرحلة جديدة من الازدهار والتقدم، وتثبت مكانتها قاطرة حقيقية للتنمية المستدامة. وتعتبر هذه المشاريع التنموية المرتبطة بالبنية التحتية حجر الزاوية لتحقيق التنمية المستدامة في الأقاليم الجنوبية. فبفضل هذه المبادرات، تحولت الأقاليم الجنوبية من مناطق نائية إلى مراكز حيوية تسهم في الاقتصاد الوطني، مما يعكس رؤية المغرب الطموحة نحو تنمية شاملة ومستدامة، تعزز الروابط الاقتصادية والاجتماعية، على المستويين المحلي والدولي.

بوابة المستقبل الاقتصادي
مشروع ميناء الداخلة الأطلسي، الذي يقع على بعد 40 كيلومترا شمال الداخلة في الجماعة القروية العركوب، يمثل خطوة إستراتيجية نحو تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الأقاليم الجنوبية. مع بلوغ نسبة الأشغال فيه 20%، من المتوقع أن يكتمل المشروع بحلول 2028، ليصبح نقطة انطلاق حيوية لدعم قطاع الصيد البحري وتحقيق الأهداف الجيوإستراتيجية للمملكة.
سيضم الميناء الجديد أرصفة متعددة الاختصاصات بطول 600 متر وعمق 16 مترًا، بالإضافة إلى محطة نفط ورصيف مخصص للخدمات بطول 100 متر. كما ستبلغ مساحة الأراضي المسطحة المخصصة للمشاريع التجارية حوالي 24.6 هكتارا، مما يعزز من قدرة الميناء على استيعاب مختلف الأنشطة التجارية والصناعية.
أما بالنسبة إلى جانب الصيد البحري، فمن المنتظر أن يتم إنشاء أرصفة بطول 1650 مترا وعمق 12 مترا، إلى جانب أراض مسطحة تصل مساحتها إلى 28.8 هكتار. كما سيتضمن الميناء أرصفة مخصصة لإصلاح السفن بعمق 12 مترًا، مع مساحة إضافية تصل إلى 8.6 هكتارات، مما يضمن تلبية احتياجات قطاع الصيد البحري وتعزيز دوره مصدرا رئيسيا للغذاء.
من خلال هذا المشروع الطموح، سيساهم ميناء الداخلة الأطلسي في دعم التنمية الجهوية، مما يفتح آفاقًا جديدة للاستثمار ويعزز من مكانة الأقاليم الجنوبية مركزا اقتصاديا حيويا على الواجهة الأطلسية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: