تصعيد تبون يضع الجالية الجزائرية في مرمى اليمين الفرنسي

صعّد الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون من لهجة بلاده تجاه فرنسا بشكل يضفي المزيد من التأزيم في علاقات البلدين، مستغلا فرصة اليوم الوطني للهجرة، ليطلق رسائل شديدة اللهجة تجاه اليمين المتطرف في فرنسا الذي اتهمه بتزييف التاريخ.

غير أن دوائر جزائرية ترى في تصريحات تبون إفراطا في تصفية الحسابات وعدم تقدير لعواقب ستلقي بتداعياتها على المصالح المشتركة للبلدين، وفي مقدمتهم الجالية التي تقول الإحصائيات إن عددها حوالي 1.7 مليون جزائري في فرنسا.

وتعتقد الدوائر الجزائرية أن استمرار التصعيد من جانب الجزائر، وبوجود حكومة يمينية في فرنسا، قد ينعكس على الجالية المحمّلة بالمشاكل أصلا، محذرة من أن المراهنة على أن السياسيين الفرنسيين بالهم طويل قد لا تنجح حاليا في وجود يمين متطرف متحفز ضد كل ما هو أجنبي.

واتهم تبون اليمين المتطرف في فرنسا، بتزييف التاريخ والعمل على وضعه في رفوف النسيان، وذلك بمناسبة اليوم الوطني للهجرة المصادف للسابع عشر من أكتوبر، الذي يخلد المجازر الجماعية التي ارتكبها الأمن الفرنسي في حق متظاهرين جزائريين من أفراد الجالية، خرجوا العام 1961 لمطالبة السلطات الفرنسية بالخروج من أراضيهم.

وجاءت اتهامات الرئيس الجزائري في خضم تدهور جديد للعلاقات الثنائية بين بلاده وفرنسا، بعد أن قرر الإليزيه دعم المقاربة المغربية لحل نزاع الصحراء، والذي ردت عليه الجزائر بسحب سفيرها من باريس، وصدور تصريحات متتالية من طرف مسؤولين جزائريين وعلى رأسهم الرئيس تبون ضد باريس.

وأولت السلطات الجزائرية أهمية قصوى لليوم الوطني للهجرة خلال هذا العام، من خلال توسيع دائرة الاستذكار لمختلف المؤسسات المدنية والعسكرية، الأمر الذي انطوى على رسائل مباشرة للرأي العام الشعبي والرسمي في فرنسا، توحي بتمسك الجزائريين بورقة التاريخ والذاكرة، في ظل ما يرونه “تجاهلا فرنسيا للملف”، وفي ردود ضمنية على موقف الإليزيه من نزاع الصحراء.

وتسير العلاقات الجزائرية – الفرنسية إلى المزيد من التأزيم، في ظل الهجوم الجزائري المتواصل، رغم أن المسألة تتعلق بغلق نافذة أخرى من نوافذ تواصل الجزائر مع العالم الخارجي، مما يزيد من استفحال عزلة غير معلنة في ظل العلاقات المتوترة مع دول مجاورة وأخرى إقليمية.

وكان ديوان الحبوب والبقوليات (حكومي)، قد أعلن في الأسابيع الأخيرة، عن استحداث “معايير” خاصة على عمليات استيراد القمح والحبوب الجافة، لتبرير ما تناقلته وسائل إعلام عالمية عن إقصاء المتعاملين والقمح الفرنسي من صفقة توريد ضخمة، في حين شدد على ما أسماه، بـ”الشفافية والنزاهة”، و”عدم الإقصاء” لأيّ طرف، لكن جهات مطلعة جزمت بأن “المعايير المستحدثة فصّلت لأجل إزاحة المتعاملين والقمح الفرنسي من الصفقة”، في إطار تصفية حسابات سياسية.

◄ المراهنة على أن الفرنسيين بالهم طويل قد لا تنجح في وجود يمين متطرف متحفز ضد كل ما هو أجنبي ولن يقبل بالتصعيد الجزائري

وفضلا عن حجم الجالية الجزائرية المتواجدة بفرنسا، والتي كثيرا ما كانت محل استهداف من طرف الدوائر السياسية والإعلامية المتطرفة، وعدم تثمين من طرف سلطات بلادها، ظل البلدان على قدر معتبر من المبادلات التجارية والاقتصادية وصلت إلى 11 مليار دولار، قبل أن تتراجع تحت ضغط التجاذبات السياسية والدبلوماسية.

وقال الرئيس الجزائري إن “ملف الذاكرة الذي تحاول أوساط متطرفة تزييفه أو إحالته إلى رفوف النسيان، في وقت تحتاج فيه مسألة الذاكرة إلى نفس جديد من الجرأة والنزاهة للتخلص من عقدة الماضي الاستعماري والتوجه إلى مستقبل لا إصغاء فيه لزرّاع الحقد والكراهية ممن مازالوا أسيري الفكر الاستعماري البائد”.

وفي تلميح إلى الأصوات القائلة بعدم تقدير القيادة السياسية الجزائرية، في هجومها على الفرنسيين خلال الأسابيع الأخيرة، للتداعيات المنتظرة على الجالية الجزائرية، المتضررة من التدابير الحكومية الفرنسية الأخيرة، جدد تبون “حرص الدولة المستمر على الدفاع عنهم ورعاية مصالحهم وتوفير الشروط المثلى لاندماجهم في مسار التقويم والتجديد الوطني، وفي ديناميكية التحول بالجزائر نحو المستقبل برؤية جديدة”.

وأعاد تبون، في أول ظهور إعلامي له خلال الولاية الرئاسية الجديدة، المقولة الأوروبية “لن أذهب إلى كانوسا “، في رد على سؤال حول مصير زيارته التي كانت مبرمجة إلى فرنسا نهاية الشهر الماضي أو بداية الشهر الجاري، وهي رسالة أراد من خلالها التأكيد على رفضه “الخضوع والتذلل”، مقابل أيّ مصلحة.

وجدد الرئيس الجزائري التذكير في كلمته بما أسماه، “المشاهد المأساوية في محطات ميترو الأنفاق وجسور نهر السين بباريس التي يحتفظ بها الأرشيف الموثق لحقد الاستعمار ودمويته وعنصريته في تلك اللحظات المجنونة، الخارجة عن أدنى حس حضاري وإنساني، تؤكد عمق الرابطة الوطنية المقدسة بين أبناء وطننا العزيز”.

عبدالمجيد تبون: ملف الذاكرة الذي تحاول أوساط متطرفة تزييفه أو إحالته إلى رفوف النسيان، في وقت تحتاج فيه مسألة الذاكرة إلى نفس جديد من الجرأة والنزاهة للتخلص من عقدة الماضي الاستعماري

وعادت بالمناسبة وجوه المجتمع المدني إلى الواجهة بإحياء مطلب قديم حول ” الاعتراف والاعتذار” مقابل أيّ تطبيع بين البلدين، حيث دعت الناشطة الحقوقية والمحامية فاطمة الزهراء بن براهم لـ”إحياء مشروع قانون تجريم الاستعمار، مع تخصيص موارد إضافية لتوثيق الجرائم المرتكبة خلال 132 عاما من الاحتلال الفرنسي، سعياً للاعتراف الفرنسي وتعويض الضحايا”.

ولفتت في ندوة نظمتها صحيفة “المجاهد” الحكومية، الناطقة بالفرنسية إلى “إمكانية إعادة طرح مشروع تجريم الاستعمار” الذي اقترح قبل 20 عاما كرد فعل على قانون 5 فيفري 2005 الصادر عن البرلمان الفرنسي، الممجد لدور الجيش الفرنسي في المستعمرات القديمة.

وأكدت على أن “مشروع القانون كان مطروحا خلال عهد الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وعلى ضرورة تشكيل فريق بحثي كبير واستحداث مخبر مستقل لإعداد ملف كامل لمواجهة فرنسا، من أجل تذليل الصعوبات التي تواجه توثيق الجرائم الاستعمارية بسبب العراقيل الفرنسية، بما في ذلك تشريعات حجب الوثائق المتعلقة بالتجارب النووية ومجزرة 17 أكتوبر 1961”.

وفي خطوة وصفت بـ”مد اليد”، كرم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذكرى المجازر التي ارتكبها أسلافه في حق الجزائريين المطالبين باستقلال بلادهم، وقال عنها إنها “وقائع لا تغتفر بالنسبة إلى الجمهورية، ولا بد من رسم المستقبل، وإن فرنسا تتذكر القتلى والجرحى والضحايا”.

وأضاف في منشور له حسابه الرسمي في منصة إكس “بوضوح، ننظر إلى التاريخ في وجهه، لنرسم المستقبل”.

ويبدو أن عمل اللجنة المشتركة التي أطلقها تبون وماكرون منذ عامين لم ترض الجانب الجزائري رغم الانطباعات الإيجابية التي خيمت على اجتماع أعضائها من خبراء البلدين ومؤرخيهما.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: