عندما ترفض الجزائر “الذهاب إلى كانوسا”

استبعد الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون زيارة فرنسا على خلفية تجدد التوتر بين البلدين في الفترة الماضية، وأكد أن “اتفاقية 1968” صارت “فزاعة” لدى اليمين المتطرف الفرنسي. وردًا على سؤال بشأن زيارة محتملة إلى باريس، قال تبون في مقابلة تلفزيونية السبت 5 أكتوبر الجاري “لن أذهب إلى كانوسا”.

شاع تعبير “الذهاب إلى كانوسا” الذي أطلقه المستشار الألماني بسمارك في نهاية القرن التاسع عشر، ويعني الخضوع للأوامر وطلب المغفرة. ويشير هذا التعبير إلى الإجراء الذي أجبر عليه الإمبراطور الألماني هنري الرابع في القرن الحادي عشر عندما ذهب إلى مدينة كانوسا الإيطالية ليطلب من البابا غريغوري السابع رفع الحرمان الكنسي عنه.

هذا ما كانت عليه كانوسا في القرون السابقة، أمّا اليوم فهي جزء من الماضي، وقد حلّت مكانها مدن تحتل مراكز القرار على المستويين السياسي والاقتصادي. فهذا ما تسعى إليه باريس مع السياسة الماكرونية، لتكون واحدة من تلك المدن التي تصنع القرار، على غرار واشنطن وموسكو وبكين وغيرها. لهذا استشعر الرئيس تبون التعاطي الفرنسي الفوقي، ورفض الذهاب إلى باريس كي لا يسجل له ذلك على أنه جاء طالبًا المسامحة والغفران.

لم يكن تبون مخطئا في توصيف الحالة التي يسعى إليها الفرنسي، لاسيما وأنه يريد العودة بالجزائر إلى بيت الطاعة، وتقديم التنازلات الكبرى مع صعود اليمين المتطرف الرافض لمعظم بنود الاتفاقية الموقعة بين البلدين، خاصة ما ارتبط منها بالبند الذي يسمح بتسهيل حركة العمالة المهاجرة إلى فرنسا.

لقد شعرت الماكرونية بأن هناك “تكويعة” أجرتها الرئاسة الجزائرية من خلال تحديد تموضعها إلى جانب المطالبين بتغيير النظام العالمي القائم؛ أي إن هناك تقاربًا جزائريّا – روسيّا – صينيّا على حساب المصالح الجزائرية – الفرنسية. لذلك تستطيع باريس أيضًا أن تفعل “تكويعتها” وتذهب بالانفتاح هي وحلفاؤها الأوروبيون نحو “عدو” الجزائر وجارتها الرباط وتجعل منها جسر عبور أوروبا إلى أفريقيا من البوابة الشمالية للقارة السمراء.

فرضت الحرب الروسية – الأوكرانية توازنات جديدة، وعملت على “فرز” الدول بين معسكرين، حيث لا مكان للحياد فيه. على ضوء تلك التبدلات ذهبت الجزائر بعيدًا في تطوير علاقاتها مع روسيا على الصعيدين الأمني والاقتصادي. لم يحدث يومًا أن تنازلت الجزائر عن علاقاتها مع موسكو، رغم الضغوط والانتقادات الغربية التي تمارس عليها، والتي تجلت في صورة الانفتاح على المغرب؛ إذ تندرج علاقة الجزائر بروسيا في خانة العلاقات التي يطبعها التوافق في التصورات الإستراتيجية بين الدولتين، والتي تتسم بقدر من الثبات والتدرج في سيرورة تطورها يندر أن تقع على مثليهما في علاقات الجزائر مع الدول الكبرى في المنظومة الدولية.

◙ الماكرونية شعرت بأن هناك “تكويعة” أجرتها الرئاسة الجزائرية من خلال تحديد تموضعها إلى جانب المطالبين بتغيير النظام العالمي القائم

التوجهات الجزائرية – الروسية تنبثق من السياسة الخارجية الجزائرية التي قوامها التعاون وتنويع الشراكات، انطلاقًا من مقاربتها البراغماتية وقراءتها الواقعية لمتغيرات المشهد الدولي، وانطلاقًا من الرؤية المستقبلية لما سيكون عليه النظام العالمي، ذهبت الجزائر نحو خيار تمتين علاقاتها مع بكين على مستويات متنوعة، إيمانًا منها بأنّ ما يجمع البلدين هو مسار طويل من نضالات التحرير والتحرر من الاستعمار الغربي.

من يراقب تطور العلاقات الجزائرية – الأوروبية يعلم أنّها ليست على أفضل حال، على عكس العلاقات المغربية – الأوروبية التي بدأت تشهد تطورًا ملموسًا وجديًا نحو تمتين العلاقات. هذا ما يعتبره البعض نوعًا من التحدي القائم بين المغرب والجزائر، حيث الخلافات لا تزال حاضرة في قضايا مختلفة.

تلعب العلاقات الاقتصادية دورًا محوريًا في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز النمو الاقتصادي والاجتماعي على مستوى العالم، فضلًا عن تعزيز التكامل الإقليمي ومواجهة التحديات العالمية وتكريس الاستقرار السياسي. لهذا اعتمدت السياسة المغربية التقارب الإستراتيجي مع الغرب، إذ بين الاتحاد الأوروبي والمغرب علاقات تجارية واستثمارية قوية.

ويعتبر الاتحاد أول شريك تجاري للمغرب، كما يعتبر المغرب الشريك الأقوى في الجوار الجنوبي، حيث تستحوذ الشركات الأجنبية على أكثر من نصف الاستثمارات المباشرة في البلاد.

التقارب الإستراتيجي بين المغرب والغرب لا يتوقف عند حدود التبادل الاقتصادي؛ فعندما نقرأ خبر انضمام فنلندا في أغسطس الماضي رسميًا إلى قائمة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي اعترفت حتى الآن بوضع الصحراء المغربية تحت سيادة المغرب “أساسًا وحيدًا لحل النزاع المفتعل” وأساسا جيدًا لحل النزاع الإقليمي حول الصحراء، فهذا يؤكد أن التقارب الإستراتيجي أيضًا هو لدعم نفوذ المغرب في هذه الرقعة الجغرافية من العالم.

إن الانفتاح الغربي على المغرب يأتي في السياق الطبيعي للانقسام الدولي القائم حول شكل النظام العالمي، في ظل الإصرار الصيني – الروسي على تغييره إلى نظام متعدد الأقطاب.

استغلت الرباط الشرخ القائم بين الدول لتعزز حضورها الإقليمي، الأمر الذي وجد فيه البعض مصدر قوة لها وليس مصدر ضعف، ولا يمكن أن تكون قد ذهبت إلى كانوسا لأنها أيضًا فتحت أبوابها لدخول الاستثمارات الصينية بمليارات الدولارات كي تبقى متوازنة في علاقاتها الدولية لا خاضعة أو مرتهنة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: