وقد رأى البعض في هذه الخطوة دلالة على أن زمن المحاسبة قد بدأت مؤشرات ظهوره إلى الوجود تلوح في الأفق.. فمنذ بداية ما سمي العهد الجديد طرحت مسألة محاكمة كبار المسؤولين سواء على الصعيد الأمني والعسكري أو على الصعيد السياسي والاقتصادي، وطالبت عدة جمعيات حقوقية بضرورة تقديم بعض كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، الذين ثبت تورطهم في عدة انتهاكات تمس بحقوق الإنسان أو تتعلق بنهب الأموال العمومية، للمحاكمة.
من هنا يطرح التساؤل حول المنطق السياسي الذي يحرك البنية الدستورية والقانونية للنظام السياسي المغربي القائم، والذي يستند بالأساس إلى مفهوم الحصانة السياسية النابعة من مفهوم السيادة الملكية.
التعيين الملكي
يتمتع الملك بصلاحيات واسعة في تعيين كبار المسؤولين الذين تسند إليهم مهمة تسيير دواليب الدولة. فبمقتضى الدستور يعين الملك المسؤولين الحكوميين، إذ إن الفصل 47 منه يمنحه صلاحية تعيينهم، وعلى رأسهم رئيس الحكومة. كما أن الفصل 48 من الدستور يمنح الملك صلاحية رئاسة المجلس الوزاري الذي يعتبر من أهم القنوات التي يتم من خلالها تسيير البلاد.
وبالتالي فإن أي حكومة يتم تشكيلها، سواء في إطار سيرورة انتخابية أو تقنوقراطية، تعتبر في الواقع حكومة جلالة الملك، وكل ما تتحمله من مسؤوليات ومهام تمارسه تحت ظل “المظلة الملكية”؛ وبالتالي فمن الصعوبة بما كان أن تتم مساءلة أي وزير أو مسؤول دون أن تطرح إشكالية المسؤولية السياسية للملك.
ولعل هذا الإشكال السياسي قد طرح، بشكل حاد، بعد وفاة الملك الحسن الثاني وبعدما أقيل وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، إذ طالبت بعض الجمعيات الحقوقية بتقديم هذا الأخير للمحاكمة؛ وكان من الصعوبة بما كان أن يفصل بين مسؤولية هذا الوزير ومسؤولية الشخص الذي عينه.
ولعل هذا الوضع هو الذي جعل الراحل إدريس البصري يدافع عن نفسه من خلال التأكيد، في تصريحاته، على أنه لم يكن إلا الخادم المطيع للملك الحسن الثاني. ففي استجواب له صرح بأن “الكل يعلم إخلاصي وتشبثي بالمؤسسة الملكية والعرش وبالجالس عليه، وأنا لم يسبق لي أبدا أن قمت بعمل خارج عن روح توجيهات وفلسفة جلالة الملك الحسن الثاني”.
وأضاف البصري أيضا، لينفي مسؤوليته عن أي انتهاكات أو تجاوزات صدرت عنه أثناء توليه لمقاليد السلطة، ما يلي: “كنت إلى جانب الملك في إطار حكم واحد، والحاكم هو الملك، وكنا روحا واحدة وتصرفا واحدا، وصاحب هذه الروح وهذا التصرف هو الملك”.
ويعتبر هذا التبرير السياسي الذي تقدم به إدريس البصري، وهو يعيش في منفاه الباريسي، التبرير الذي يمكن أن يقدمه أي وزير أثناء تعرضه لأي محاسبة. فالتستر وراء “خدمة الملك” وتنفيذ توجيهاته تشكل الدرع الواقي لكل الوزراء باختلاف مراتبهم، مادام “جلالة الملك” الذي عينهم يعتبر غير مسؤول سياسيا.
ولعل هذا ما يفسر أنه طيلة أكثر من أربعة عقود من الحكم في المغرب لم يتم تقديم إلا حالات نادرة أمام القضاء، وذلك بتهمة الرشوة في بداية السبعينيات، في حين لم يتم تقديم أي وزير من “حكومة جلالة الملك” إلى المحاسبة، في وقت شهدت دول عربية، مازالت أنظمتها الديمقراطية متعثرة، كمصر وغيرها، حالات لوزراء قدموا للمحاكمة بعد ثبوت تورطهم في قضايا سياسية.
وإذا كان “وزراء حكومة جلالة الملك” يتمتعون في النظام السياسي المغربي بهذه الحصانة السياسية، فإن الموظفين السامين هم أيضا يتمتعون بهذا الامتياز.
وهكذا، فبالرغم من مطالبة العديد من الجمعيات الحقوقية بتقديم بعض الشخصيات التي تسير أمور مغاربة العالم نظرا لإخفاقهم في عملهم و تبديرهم للمال العام و اختلاس بعضهم للمال العام حيث تتوفر أخبارنا الجالية على ملفات تدين مسؤولين بارزين في الدولة يسيرون مؤسسات تهتم بالجالية، الملف الذي سينشر في وقته لفضح المستور.
ويمكن أن نحدد الخلفية السياسية التي تحكمت في مقاربة السلطة الملكية في ما يتعلق بهذه القضية، إذ نجد أن منطقها يكمن في المرجعية الدستورية التي يستند إليها النظام السياسي بالمغرب؛ فالدستور يمنح الملك بشكل منفرد صلاحية تعيين الشخصيات السامية، المدنية والعسكرية، والتي تمتلك السلطة الفعلية سواء على الصعيد المركزي أو الجهوي أو الإقليمي أو المحلي. فالفصل 30 من الدستور ينص على أن الملك، بوصفه القائد الأعلى على القوات المسلحة، “له حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية، كما له أن يفوض لغيره ممارسة هذا الحق”.
ووفق منطوق هذا الفصل، فإن الملك يتفرد بتعيين كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين بظهير ملكي، ما يضفي على هؤلاء حصانة ضمنية ضد أي متابعات أو محاسبات، إذ يعتبرون مسؤولين أمامه وحده. وبما أنه غير مسؤول سياسيا، فإن ذلك ينعكس عليهم أيضا.
ولعل هذا ما يفسر أنه رغم تقارير لجان التقصي التي خلصت إلى اختلاسات تورط فيها مجموعة من المسؤولين، كمجلس الجالية و المجلس الاوروبي للعلماء المغاربة و مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج و كذا وزير الشؤون الخارجية و التعاون الإفريقي و المغاربة المقيمين بالخارج الذي أقبر وزارة الجالية و أهمل مغاربة العالم، فإن أي مسطرة للمتابعة لم تحرك ضدهم، وحتى أولئك الذين تم اعتقالهم لعرضهم على المحاكمة، سهلت لهم عملية الإفلات من العقاب كما حدث بالنسبة إلى أحد المدراء السابقين للصدوق الوطني للضمان الاجتماعي….
ولعل هذا الوضع هو الذي جعل المغرب بلدا يتهافت فيه أعضاء النخبة السياسية والإدارية على مراكز المسؤولية، لأن هذه “المسؤولية”، ورغم ما تحققه من مكاسب مادية كبيرة، فإنها بالمقابل لا تعقبها أي محاسبة أو مساءلة من طرف المؤسسات الممثلة للسيادة الشعبية. فالبرلمان، يعتبر الحكومة مسؤولة أمام “الملك وأمام البرلمان”، والذي بإمكانه سحب الثقة من الحكومة ، و يبقى دوره محدودا في متابعة أعضاء الحكومة.
إذ إن الآليات الدستورية التي تمكن البرلمان من هذه المتابعة تعتبر جد معقدة، إذ تتطلب، وفق الفصل 109 من الدستور، توقيع خمس أعضاء أحد مجلسي البرلمان الذي وجه الاتهام إلى أحد أعضاء الحكومة، والتصويت بالموافقة على هذا الاتهام من طرف الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم كل مجلس”. بالإضافة إلى أنه “يحدد قانون تنظيمي عدد أعضاء المحكمة العليا وكيفية انتخابهم وكذا المسطرة الذي يتعين اتباعها”.
وبالتالي فإن هذه التعقيدات الدستورية، إضافة إلى طبيعة التشكيلات الحزبية التي تعاقبت على البرلمان، جعلت أي مساءلة لكبار المسؤولين شبه مستحيلة، ما يفسر أنه طيلة أكثر من أربعة عقود لم تعرف الحياة السياسية المغربية أي متابعة أو محاسبة لوزير ما أمام البرلمان رغم اكتشاف عدة ملفات فساد مالية وإدارية وسياسية.
ولم يقتصر الأمر فقط على الوزراء، بل شمل أيضا كبار المسؤولين الآخرين؛ فرغم امتلاك البرلمان لبعض آليات المحاسبة كتشكيل لجان للتحقيق والتقصي، كما ينص على ذلك الفصل 67 من الدستور، فإنها تبقى آليات مقيدة ومحدودة جدا، خاصة أن البرلمان ليست له أدنى سلطة لتعيين كبار المسؤولين الذين يتولى الملك بمفرده تعيينهم.
وعموما فإن هذا الوضع هو الذي جعل الحياة السياسية بالمغرب حبلى بملفات الفساد وإفلات المسؤولين من المساءلة، إذ رغم المطالب بتطبيق دولة القانون، والتي “تجعل القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة، ويجب على الجميع الامتثال له”، وأن “جميع المغاربة سواء أمام القانون”.
وبالرغم من التحقق من ثبوت عدة ملفات فساد تورط فيها العديد من كبار المسؤولين، فإنه لم يحدث، إلى حد الآن، أن قدم أحد هؤلاء المسؤولين إلى القضاء، ولم يتابع الرأي العام، إلى حد الآن، وقائع محاكمة مسؤول كبير، سواء كان وزيرا أو جينيرالا أو مديرا عاما أو واليا أو عاملا.. مع أن الفرصة كانت سانحة لمثل هذه المحاكمات، خاصة في بداية العهد الجديد.
فبعد حملات التطهير، التي دشنها وزير الداخلية السابق إدريس البصري، وطفو عدة ملفات فساد تهم اختلاسات ببعض المؤسسات المالية، والتي تناولتها الصحف بإسهاب كبير، انتظر الرأي العام أن يكون ذلك انطلاقة لتدشين دولة الحق والقانون، وأن تسنح الفرصة لمتابعة محاكمات يمثل خلالها مسؤولين كبار أمام القضاء للمساءلة.
لكن على العكس من ذلك، تابع أحداثا وتطورات محاكمات سياسية قدم خلالها صحافيون و متهمون من السلفية الجهادية بتهمة الإرهاب والتطاول على النظام العام، وتم الحكم عليهم بسرعة كبيرة، في الوقت الذي بقيت ملفات فساد تراوح مكانها، ما كرس فكرة أن “المسؤولين الكبار سيبقون دائما فوق القانون وبعيدين عن كل مساءلة مهما كانت تجاوزاتهم وتعسفاتهم واختلاساتهم”.
ولعل هذا ما توصلت إليه الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة في تقريرها ، الذي أشار إلى أن من أهم أسباب تفشي الفساد والرشوة بالمغرب هي ظاهرة الإفلات من العقاب، وعدم تفعيل القوانين المتعلقة بمحاربة الفساد، وصعوبة إحالة المسؤولين على المحكمة العليا أو رفع الحصانة عن البرلمانيين المشتبه في تورطهم في الفساد…
لذا من الضروري إعادة النظر في هذا الوضع من خلال تحديد الإطار السياسي والدستوري للمسؤولية في البلاد، من خلال وضع دستور جديد يقوم على السيادة الشعبية التي يصوت من خلالها الناخبون، بكل شفافية وحرية، على من سيمثلهم بالبرلمان، ويكون رئيس الحكومة والوزراء المنتخبون مسؤولين أمام البرلمان الذي ستكون له الصلاحية، ليس فقط لمنح الثقة أو حجبها عن أعضاء الحكومة، بل أيضا لتعيين كبار المسؤولين والموظفين السامين، مع الحق في محاسبتهم ومتابعتهم.
كما يجب أن يتضمن الدستور فصولا تضمن استقلالية تامة للسلطة القضائية، تمكن القضاة من محاكمة كل مسؤول ثبت تورطه في أي تجاوزات بشكل علني وأمام الرأي العام، حتى يترسخ لدى الجميع أن القانون يطبق على كل مواطن كيفما كانت مرتبته ومهما سمت مسؤوليته، أو كيفما كانت عراقة منحدره الاجتماعي وانتسابه العائلي أو قوة نفوذ السياسي.
لكن، يبدو أنه على الرغم من وضع دستور جديد للبلاد في فاتح يوليوز 2011، في سياق الحراك السياسي الذي رفعت فيه حركة 20 فبراير شعار محاربة الفساد والاستبداد، فقد بقيت عدة ملفات فساد تراوح مكانها في ظل حكومة أسندت فيها لرئيس الحكومة المنتخب تنزيل مقتضيات هذا الدستور الذي تضمن عدة بنود تهم بالأساس اقتسام صلاحية تعيين كبار الموظفين في الإدارات المدنية بين الملك ورئيس الحكومة وفق الفصل 91 و 57 و 49 من هذا الدستور. فباستثناء الحكم بالسجن على المدير العام السابق للمكتب الوطني للمطارات، مازالت عدة ملفات فساد معلقة.
فبالإضافة إلى ملف مشروع الحسن الثاني الذي تمت فيه محاكمة بعض المقربين من وزير الداخلية السابق والحكم عليهم بالحبس (كلعفورة والسليماني…) بينما نجح الأمين العام للاتحاد العام الشغالين وعضو اللجنة التنفيذية بحزب الاستقلال السابق في التسويف وعدم الحضور لجلسات محاكمته بدعوى المرض.
ولعل هذا الوضع هو الذي يجعل القانون بالمغرب أداة من أدوات القهر بدل أن يكون ضمانة من ضمانات دولة القانون الذي يساوي بين جميع المواطنين كيفما كانت فروقاتهم الطبقية أو الوظيفية أو العائلية.
فالإحساس العام الطاغي في المغرب هو أن القانون لا يطبق إلا على الضعفاء وفاقدي الحصانات المالية والعلائقية، والذي لا يتصور فيه أن تقدم شخصيات عمومية أو نافذة للمحاكمة.. وبالتالي فقد كانت محاكمة ثابت، وعلى الرغم من كل ملابساتها، خلخلة فكرية وسياسية لهذا الوضع الذي سرعان ما تم احتواؤه لتتم العودة إلى تكريس عدم ربط المسؤولية بالمحاسبة، خاصة بالنسبة للمسؤولين وكبار خدام الدولة.
لقد أصبح الوقت يتطلب المحاسبة و العقاب لكل من تخلى عن مهامه و استغل منصبه دون القيام بواجباته لتنتهي الفترة السياحية التي يعيشها من وضعتهم في مهامهم و ليس هناك من يحاسب المسؤولين الا سيادتكم .
يتبع…
للذكر المقال أرسلناه إلى : الديوان الملكي
……………………إلى إدارة السي ياسين المنصوري
……………………. رئاسة الحكومة
……………………الأمانة العامة للحكومة
……………………رئاسة البرلمان المغربي
……………………رئاسة مجلس المستشارين
……………………رؤساء الفرق البرلمانية
…………………….وزارة الشؤون الخارجية والتعاون
…………………….وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية المغربية
……………………..وزارة الجالية و الهجرة
……………………..وزارة النقل و التجهيز ..
……………………..المجلس العلمي الأعلى بالرباط
………………………وزارة المالية
…………………….مجلس الجالية
……………………..مؤسسة الحسن الثاني لمغاربة الخارج
……………………..الأمانة العامة للأحزاب السياسية المغربية
……………………..السفارات المغربية بالخارج
……………………..القنصليات المغربية بالخارج ..