أيهما أفضل للمصالح العربية: هاريس أم ترامب
منذ قرابة ثُلثي القرن كان السؤال: أي المرشحَين الرئيسيين لانتخابات الرئاسة الأميركية أفضل للمصالح العربية؟ حاضراً في كل انتخابات رئاسية. ويقول أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة أحمد يوسف أحمد، في تقرير نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، إن هذا في حد ذاته ليس بغريب، فالولايات المتحدة هي الدولة الأقوى في العالم منذ نشأة إسرائيل حتى الآن من جانب، وهي الداعم الأساسي لها منذ تلك النشأة من جانب آخر؛ ومن ثم فإن وجود رئيس شديد الانحياز إليها أو أقل انحيازاً يمكن أن يكون له مردوده على المصالح العربية وبالذات في القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن هذه القضية ليست الوحيدة المهمة في العلاقات العربية – الأميركية فإن بقية قضاياها، كالتبادل التجاري والثقافي ونمط التنمية وغير ذلك، لا تنطوي على نفس الاستقطاب الذي يسود عادةً المواقف من القضية الفلسطينية؛ ولذلك تكون لها الصدارة دائماً في الهواجس المتعلقة بسؤال الأفضلية بين المرشحين الرئاسيين الأميركيين.
ومن المنظور التاريخي من المؤكد أن الانحياز الأميركي إلى إسرائيل ليس قضية حزبية؛ أي أنه قائم بغض النظر عن الانتماء الحزبي للرؤساء الأميركيين، وحتى الذين يدفعون أحيانا بفكرة أن الرؤساء الجمهوريين عامة هم الأكثر انحيازا إلى إسرائيل سوف يصطدمون بأن الاستثناء الوحيد تاريخيا من الدعم القوي لتل أبيب جاء من الرئيس الجمهوري الأسبق دوايت أيزنهاور، الذي شغل منصب الرئيس الـ34 للولايات المتحدة من عام 1953 حتى عام 1961، حين أصر في فترة ولايته على انسحاب إسرائيل من سيناء وغزة بعد أن مُني العدوان الثلاثي على مصر، بالتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا، بالفشل.
وثمة مواقف أخرى غير تقليدية لرؤساء أميركيين جمهوريين، مثل حجب الرئيس الأسبق جورج بوش الأب ضمانات قروض بقيمة 10 مليارات دولار طلبتها إسرائيل لاستيعاب هجرة اليهود السوفييت، وتصريحه آنذاك بأنه لن يمنح الضمانات ما لم تُجمد إسرائيل بناء المستوطنات في الأراضي التي احتلتها في حرب 1967، ومثل خارطة الطريق التي قدمها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عام 2003، وانتهت إلى قرار مجلس الأمن 1515 الذي نص على قيام دولة فلسطينية بحلول عام 2005.
وهكذا فإنه كما كانت هناك خطوات إيجابية من المنظور العربي اتخذها رؤساء ديمقراطيون مثل جون كيندي (1961 – 1963)، وجيمي كارتر (1977 – 1981)، وباراك أوباما (2009 – 2016)، كانت لرؤساء جمهوريين مواقفهم الإيجابية أيضاً، على نحو ما رأينا. والمتأمل في مواقف الرؤساء الأميركيين المتعاقبين كافة، جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين، يمكن أن يتأكد بسهولة من أمرين؛ أولهما أن النموذج السائد بوضوح لا لبس فيه هو الانحياز التام إلى إسرائيل، ويتخذ ذلك بطبيعة الحال شكل الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري على نحو مطلق.
أما ما تمت تسميته في الفقرة السابقة بالمواقف الإيجابية، سواء لرؤساء ديمقراطيين أو جمهوريين، فإما أنه لم يُخْتَبَر (فقد اُغتيل كيندي قبل أن يثمر حواره مع جمال عبدالناصر بشأن الصراع العربي – الإسرائيلي عن نتائج) أو كان قصير النفس (فقد تراجع جورج بوش الأب عن قراره تعليق ضمانات القروض لإسرائيل في 1991 خلال العام التالي مباشرة بعد أن عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحاق شامير، تقليصاً محدوداً في بناء المستوطنات)، أو أنه لم يُفعّل كما في قرار مجلس الأمن 1515، أو تم في الوقت الضائع كامتناع إدارتي الرئيسين كارتر وأوباما عن التصويت في نهاية ولايتيهما في مجلس الأمن على مشروعي قرارين ضد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، أو كان بلا أنياب؛ وهو ما ينسحب على إدارة الرئيس الحالي جو بايدن التي تبنت حل الدولتين بعد تداعيات عملية “طوفان الأقصى” دون أن تبذل أي جهد فعلي لوضع هذا الحل موضع التطبيق.
والخلاصة انحياز دائم من الرؤساء الأميركيين بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية؛ بحيث يصبح موقف الرئيس الأسبق أيزنهاور في عام 1957 “بيضة الديك”، كما أن المواقف كافة التي يمكن أن تمثل خروجاً جزئياً عن هذا الانحياز آلت إلى لا شيء. ولذلك يرى كثيرون أن طرح سؤال التفضيل بين مرشحي الرئاسة الأميركية لا جدوى من ورائه؛ لأن النتيجة واحدة من منظور المصالح العربية. غير أن البعض يرى أن ثمة مبرراً قوياً لطرح هذا السؤال في انتخابات نوفمبر المقبل تحديداً؛ لأن تحيز دونالد ترامب لإسرائيل في ولايته الأولى تجاوز حدود المألوف في السياسة الأميركية.
وإذا كان من الممكن الاتفاق على أن الفروق في سياسات الرؤساء الأميركيين تجاه القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لا تستحق الجدل الذي دار طويلاً حول أفضلية أي من المرشحين الديمقراطي والجمهوري بالنسبة إلى المصالح العربية، فإن ثمة فريقاً يرى أن هذا الجدل له مبرراته في حالة الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في 5 نوفمبر 2024، وهي أن ترامب ليس أي مرشح للرئاسة، فهو الرئيس السابق الذي أقدم على سلسلة من الخطوات لمصلحة إسرائيل لم يجرؤ عليها أي رئيس أميركي سبقه.
ومن المعروف أن الكونغرس الأميركي كان قد أصدر في عام 1995 “قانون سفارة القدس” الذي نص على أنه “ينبغي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، كما نص على أن السفارة الأميركية ينبغي أن تنتقل إلى القدس خلال خمس سنوات، وكان بيل كلينتون هو الرئيس الأميركي آنذاك، وخلفه كل من جورج بوش الابن وكذلك أوباما بولايتين لكل منهما، ولم يجرؤ أي من الرؤساء الثلاثة على الأخذ بهذا القانون، استمراراً للسياسة الأميركية التي دأبت على اعتبار أن مستقبل القدس لن يكون موضوع إجراءات أُحادية الجانب، خاصةً وأن الولايات المتحدة عارضت ضم إسرائيل للقدس الشرقية بعد عدوان 1967.
بيد أن ترامب اعترف في 6 ديسمبر 2017، أي قبل مرور سنة على ولايته، بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها بحلول مايو من العام التالي، وزاد على ذلك في مارس 2019 بضم الجولان السوري المُحتل إلى إسرائيل، وفي نوفمبر من السنة نفسها أعلنت واشنطن أنها لم تعد تعتبر المستوطنات في الضفة الغربية مخالفة للقانون الدولي. وهكذا تنكر ترامب لسياسات الرؤساء الأميركيين كافة منذ عدوان 1967 تجاه الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في ذلك العدوان. وفي عام 2020 توج ترامب انحيازه إلى إسرائيل بإعلان خطته لتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي التي عُرفت باسم “صفقة القرن”.
ويواصل ترامب في حملته الانتخابية للفوز بالرئاسة في انتخابات نوفمبر 2024 مناصرته لإسرائيل بالحديث عن ضرورة إنهاء الحرب في غزة، ولكن على النحو الذي يجعل إسرائيل تحقق أهدافها من هذه الحرب، وهو يبني جزءا مهما من حملته ضد منافسته كامالا هاريس على أساس أنها تكره إسرائيل، ويحذر من أن الأخيرة ستختفي في غضون سنتين لو أصبحت هاريس رئيسة، موجهاً بذلك دون أن يدري إهانة قاتلة لإسرائيل مفادها أن بقاءها يعتمد على سياسة الرئيس الأميركي.
◙ طرح سؤال التفضيل بين مرشحي الرئاسة الأميركية لا جدوى من ورائه؛ لأن النتيجة واحدة من منظور المصالح العربية
ويستند البعض من هذه الخبرة السابقة لترامب في ولايته الأولى وتوجهاته في حملته الانتخابية الحالية، إلى أنه لا وجه للمقارنة من منظور المصالح العربية بينه وبين المرشحة الديمقراطية التي تعترف بحل الدولتين وتسعى لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن، ويَعد مستشارها بمراجعة السياسة الأميركية تجاه إسرائيل إذا فازت بالرئاسة ووصلت إلى البيت الأبيض. غير أن الرد على وجهة النظر هذه مستمد دون جدال من الخبرة الماضية للسياسة الأميركية تجاه إسرائيل منذ نشأتها، والتي تشير، كما رأينا، إلى أن الانحياز إليها هو الأساس، وأن كل المواقف المعتدلة التي يمكن أن تُنْسَب للديمقراطيين إنما هي، كما سبقت الإشارة، إما قصيرة النفس، أو لم تأت إلا في الوقت الضائع، والأهم أنها كانت بلا أنياب؛ أي غير مصحوبة بأي أدوات لضغط حقيقي على تل أبيب يترجم المواقف المعقولة إلى حقائق على الأرض.
وهذا ما يبدو واضحاً في الأحداث الحالية؛ إذ إن التصريحات المنسوبة إلى الرئيس الأميركي بايدن ووزيري خارجيته ودفاعه وأعضاء فريقه الرئاسي لا تُعد ولا تُحصى بشأن حل الدولتين ووقف إطلاق النار ورفض التهجير وضرورة إدخال المساعدات إلى غزة، دون أن ينجم عنها أي تطور إيجابي على الأرض، إلى درجة أن البعض يتهم الإدارة الأميركية الحالية بالتواطؤ مع إسرائيل لإعطاء الانطباع بأن الأمور تتقدم باتجاه وقف الحرب، كما بدا من التصريحات شديدة التفاؤل عن قرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار؛ وذلك بغرض “تخدير” الأطراف الفلسطينية والعربية لإعطاء إسرائيل الفرصة كي تتم مهمتها وتحقق أهدافها من الحرب. ومن ثم يرى أصحاب وجهة النظر هذه أن وصول شخصية صريحة في مواقفها المنحازة إلى إسرائيل قد يكون أفضل للمصالح العربية، على أساس أن هذه المواقف قد تُحَفز الاستجابة المطلوبة للدفاع عن المصالح العربية.
ويوضح التحليل السابق أن السؤال يمكن أن يكون غير ذي موضوع؛ بمعنى أن الانحياز الأميركي التام إلى إسرائيل حقيقة عابرة للانتماءات الحزبية والمتغيرات الشخصية الخاصة بالرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض، ولا يعني هذا غياب أي فروق بينهم. لكن هذه الفروق لم يحدث أن أفضت إلى نقلة نوعية إيجابية للمصالح العربية، وحتى عندما أحدثت هذه الفروق انتكاسات واضحة لهذه المصالح كما في ولاية ترامب، فإن جذور هذه الانتكاسات راسخة في الأوضاع الفلسطينية والعربية التي سمحت بذلك؛ ومن ثم فإن السؤال الأجدر بأن يُطرح ليس هو أي المرشحين في الانتخابات الرئاسية الأميركية أفضل للمصالح العربية؟ وإنما ما الذي يتعين على العرب فعله كي يكون لهم تأثيرهم في القرارات الأميركية المتعلقة بمصالحهم؟ وآفاق الحركة وأدواتها في هذا الاتجاه واسعة، خاصة بعد التحولات التي حدثت في بعض دوائر الرأي العام الأميركي تجاه السياسة الإسرائيلية في غزة والضفة، لكن تلك قصة أخرى.