محمد السادس بعد 25 عاما…
كانت الذكرى الـ25 لاعتلاء الملك محمد السادس العرش في المغرب مناسبة للتأكّد من تلك العلاقة العميقة التي تربط العاهل المغربي بشعبه. هذه العلاقة في أساس قدرة العاهل المغربي على الحديث بكل صراحة عما يجب عمله على الصعيد الفلسطيني بعيدا عن أي عقد من أي نوع.
كان لافتا في خطاب محمّد السادس، في ذكرى مرور ربع قرن على خلافة والده الملك الحسن الثاني على عرش المغرب، تركيزه على مشكلة المياه في بلده قبل انتقاله إلى حرب غزّة وشروط معالجتها. هناك ملك يجمع بين الداخل والخارج، بين تطوير المغرب داخليا وتمكينه من لعب دور بناء خارج حدوده، بما في ذلك على الصعيد الفلسطيني، بعيدا عن الشعارات الفارغة والمزايدات.
لم يستطع المغرب حصد كلّ التأييد العربي والدولي لقضيته الأولى، وهي قضية مغربيّة الصحراء، من دون تماسك داخلي لعب محمّد السادس دورا قياديا في تعزيزه خلال السنوات الـ25 من حكمه. عمل ذلك من خلال رهانه على الإنسان المغربي والتجربة الديمقراطية التي باتت تجربة رائدة من خلال دستور العام 2011 الذي ساهم في خلق المزيد من الثقة والتلاحم بين الملك والشعب.
تكمن أهمّية المغرب، قبل أي شيء آخر في تلك اللحمة بين المؤسسة الملكية والشعب، وهي لحمة جعلت من المملكة واحة سلام واستقرار في منطقة مضطربة. أكثر من ذلك، استطاع المغرب، بقيادة محمّد السادس تطوير نفسه والمحافظة على وحدته الترابية في مواجهة حرب استننزاف يشنها عليه النظام العسكري في الجزائر منذ العام 1975 تاريخ استعادة الأقاليم الصحراوية من الاستعمار الإسباني بطريقة سلميّة.
العاهل المغربي يتحدث بصراحة وشجاعة ليس بعدها شجاعة عن كيفية التعاطي مع حرب غزة وكيفية إنهائها بعيدا عن “المتطرفين من أي جهة كانوا” يستطيع ذلك لأن المغرب بات استثناء في المنطقة
كانت “المسيرة الخضراء” التي قام بها الشعب المغربي في نوفمبر 1975، أكبر دليل على الروح السلميّة التي تمسّك بها المغرب، في ظلّ الملك الحسن الثاني، من أجل استعادة أقاليمه الصحراوية وتأكيد قدرته على حماية وحدته الترابيّة.
يكمن سرّ تفوق محمد السادس في تلك القدرة العجيبة التي يمتلكها على الجمع بين الإنجازات الداخلية والدور المغربي على الصعيدين الأفريقي والعربي وحتّى على الصعيد الدولي من خلال الواجهة الصحراوية للمغرب، أي ميناء الداخلة في الصحراء المغربيّة تحديدا. يكرس ميناء الداخلة، عبر دوره الطليعي، وجود انفتاح أفريقي على القارة الأميركيّة وتعاون معها بفضل المغرب وعبره.
من هذا المنطلق، في استطاعة محمد السادس الذي تشغله في هذه الأيام مشكلة المياه في المغرب القول في مطلع خطابه في الذكرى الـ25 لاعتلائه العرش “خلال هذه السنوات، حققنا، والحمد لله، العديد من المكاسب والمنجزات، في مجال الإصلاحات السياسية والمؤسسية، وترسيخ الهوية المغربية. كما أطلقنا الكثير من المشاريع الاقتصادية والتنموية، والبرامج الاجتماعية، لتحقيق التماسك الاجتماعي، وتمكين المواطنين من الولوج للخدمات الأساسية. وعملنا كذلك، على تكريس الوحدة الترابية، وتعزيز مكانة المغرب، كفاعل وازن، وشريك مسؤول وموثوق به، على الصعيدين الجهوي (الداخلي) والدولي (…) إلا أن التحديات التي تواجه بلادنا، تحتاج إلى المزيد من الجهد واليقظة، وإبداع الحلول، والحكامة في التدبير. ومن أهم هذه التحديات، إشكالية الماء، التي تزداد حدة بسبب الجفاف، وتأثير التغيرات المناخية، والارتفاع الطبيعي للطلب، إضافة إلى التأخر في إنجاز بعض المشاريع المبرمجة، في إطار السياسة المائية. فتوالي ست سنوات من الجفاف، أثر بشكل عميق على الاحتياطات المائية، والمياه الباطنية، وجعل الوضعية المائية أكثر هشاشة وتعقيدا. ولمواجهة هذا الوضع، الذي تعاني منه العديد من المناطق، لاسيما في العالم القروي، أصدرنا توجيهاتنا للسلطات المختصة، لاتخاذ جميع الإجراءات الاستعجالية والمبتكرة لتجنب الخصاص (النقص) في الماء. وما فتئنا نشدد على ضرورة التنزيل الأمثل، لكل مكونات البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020 – 2027، الذي ساهم، والحمد لله، في التخفيف من حدة الوضع المائي”.
تظل تلك القدرة على الاهتمام بكلّ ما يهم المواطن المغربي ميزة خاصة بمحمّد السادس الذي هو قبل كلّ شيء الملك الإنسان الذي يدرك أهمّية المياه بالنسبة إلى كل مغربي وبالنسبة إلى كل منطقة مغربيّة. يدرك محمّد السادس أهمّية توفير المياه لأبناء الشعب المغربي ولماذا هناك حاجة أكثر من أي وقت إلى تحلية مياه البحر وتعميم التجربة الناجحة التي بدأت بالدار البيضاء في هذا المجال.
كان خطاب العاهل المغربي في ذكرى مرور ربع قرن على اعتلائه العرش مناسبة للتذكير بالدور العربي للمغرب على الصعيد الفلسطيني خصوصا. من هذا المنطلق، قال محمّد السادس “إن الاهتمام بالأوضاع الداخلية لبلادنا، لا ينسينا المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني الشقيق. وبصفتنا رئيس لجنة القدس، عملنا على فتح طريق غير مسبوق، لإيصال المساعدات الغذائية والطبية الاستعجالية، لإخواننا في غزة. وبنفس روح الالتزام والمسؤولية، نواصل دعم المبادرات البناءة، التي تهدف لإيجاد حلول عملية، لتحقيق وقف ملموس ودائم لإطلاق النار، ومعالجة الوضع الإنساني. إن تفاقم الأوضاع بالمنطقة يتطلب الخروج من منطق تدبير الأزمة، إلى منطق العمل على إيجاد حل نهائي لهذا النزاع، وذلك وفق المنظور التالي:
• أولا: إذا كان التوصل إلى وقف الحرب، في غزة، أولوية عاجلة، فإنه يجب أن يتم بموازاة مع فتح أفق سياسي، كفيل بإقرار سلام عادل ودائم في المنطقة.
• ثانيا: إن اعتماد المفاوضات لإحياء عملية السلام، بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، يتطلب قطع الطريق على المتطرفين، من أي جهة كانوا.
• ثالثا: إن إرساء الأمن والاستقرار بالمنطقة، لن يكتمل إلا في إطار حل الدولتين، تكون فيه غزة جزءا لا يتجزأ من أراضي الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية”.
يتحدث العاهل المغربي، بصراحة ليس بعدها صراحة وشجاعة ليس بعدها شجاعة عن كيفية التعاطي مع حرب غزّة وكيفية إنهائها بعيدا عن “المتطرفين من أي جهة كانوا”. يستطيع ذلك لأن المغرب بات استثناء في المنطقة وبات قادرا على التحرّك انطلاقا من قاعدة داخلية ثابتة أسسها محمد السادس الذي عرف كيف يطور تجربة أسلافه معتمدا على ثقة شعبه به.