في الذكرى الـ25 لجلوس الملك محمد السادس
تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة والعشرون لجلوس العاهل المغربي الملك محمد السادس على عرش آبائه وأجداده من الملوك العلويين خلفا لوالده الراحل الكبير الحسن الثاني، ومبايعته ملكا للبلاد في 23 يوليو 1999، وهو الحدث الذي شكّل نقلة نوعية في تاريخ المملكة من خلال إعادة ترتيب الوضع الداخلي وتشكيل ملامح المغرب الجديد وفق فلسفة الحكم التي ميزت المرحلة الحالية منذ تدشين مساراتها الأساسية قبل ربع قرن بإرادة خاصة من الملك الثالث والعشرين من سلالة العلويين الفيلاليين.
والثابت والمؤكد أن فترة حكم الملك محمد السادس وإن كانت امتدادا لحكم أسرته منذ وضع اللبنة الأولى للسلطنة الشريفة في العام 1631 على يد مولاي الشريف بن علي، إلا أنها تعتبر محطة مفصلية في تاريخ المملكة باعتبارها أعادت تأسيس العلاقة بين العرش والشعب، وبين الدولة والمجتمع، وبين المغرب والعالم، وبين المغرب والمستقبل.
وفي هذا السياق، يمكن الوقوف عند بعض النقاط المهمة بمناسبة ذكرى اليوبيل الفضي لعهد الملك محمد السادس..
◄ بالنظر إلى النصف الأول من العشرية الثالثة، فإن جميع المؤشرات تؤكد على أن أهمية المكاسب التي تحققت، ومن أبرزها تكريس الوفاق الوطني وترسيخ مبدأ التضامن والتعاون والتكافل بين المغاربة
أولا، لا بد من الإشارة إلى الشجاعة التي أبداها الملك الشاب من خلال إعادة قراءة تاريخ بلاده المعاصر وتكريس مبدأ العدالة الانتقالية وطيّ صفحة الماضي بواسطة هيئة الإنصاف والمصالحة التي أصدر قراره بإنشائها في السابع من يناير 2004، وقدمت إليه تقريرها النهائي في ديسمبر 2005 مع عرضٍ موجزٍ لنتائجها وتوصياتها المتعلقة بالانتهاكات التي وقعت بين عامي 1956 و1999، وقامت في وقت لاحق بإنشاء أرشيف يحتوي على جميع الأدلة التي تم جمعها في تحقيقاتها والتي يمكن استخدامها في ما بعد أثناء الإجراءات القضائية، وعرضت عددا من التوصيات إلى الدولة، بما في ذلك مجموعة متنوعة من الإصلاحات الحكومية، من بينها مواصلة التحقيقات من خلال التعمق أكثر في بعض الملفات الشائكة، وإصلاح كلّ من قطاع الأمن والقضاء بما في ذلك إنشاء سلطة قضائية مستقلة، وتعديل الدستور لضمان حقوق معينة لاسيما حقوق الإنسان، والإذن بالتعويضات؛ مالية ونفسية وطبية واجتماعية، والتصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بما في ذلك إلغاء عقوبة الإعدام، مع التأكيد على وجوب أن تتحمل الدولة المسؤولية عن الانتهاكات بما في ذلك الاختفاء والاحتجاز التعسفي والتعذيب والاستخدام المفرط للقوة، والعمل على تقليص السلطات التنفيذية وتقوية السلطة التشريعية، بالإضافة إلى توصيات مفصّلة في مجالات معينة منها: المساواة بين الجنسين، الوساطة المجتمعية، الحد من الفقر، تطبيع الوضع القانوني، التعليم المستمر، التطوير المهني، إعادة التأهيل الطبي والنفسي وإقامة النصب التذكاريّة وأشياء أخرى.
وكانت العشرية الأولى من فترة حكم محمد السادس عنوانا للمصالحة الوطنية الشاملة مع مكونات المشهد السياسي والمجتمع بصفة عامة، ومع التاريخ ومحطاته المفصلية، كما شهدت إرساء مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي وتحقيق منجزات حقيقية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أجل الوصول إلى مصاف الدول الديمقراطية والمتقدمة، وتميزت بإعادة تأسيس النظام الملكي على أسس الديمقراطيات الحديثة، وبتجديد العلاقة بين العرش العلوي والشعب وفق عقيدة وطنية مواكبة لحالة الوعي التي ترسخت بالقطيعة مع أخطاء الماضي، وبالتواصل مع إيجابياته وأبرزها على الإطلاق الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع في وجه تحديات التاريخ والجغرافيا ورهانات العصر ومتطلبات المرحلة ومؤامرات الإخوة الأعداء ممن يستهدفون السيادة الترابية للبلاد.
ثانيا، تميزت العشرية الثانية من حكم الملك محمد السادس بتشكيل ملامح ربيع مغربي حقيقي تمت من خلاله ترجمة مبادئ وثوابت العشرية الأولى إلى انجازات حقيقية على أرض الواقع، في الوقت الذي كانت فيه دول المنطقة العربية تواجه طوفان الفوضى الخلاقة وانهيارات الدول الوطنية وفق أجندات تتناقض مع مصالح الشعوب والمجتمعات.
وفي التاسع من مارس 2011، وجه الملك خطابا إلى الشعب وعد فيه بإصلاحات كبيرة بما في ذلك الضمانات الدستورية لحرية التعبير، المساواة الاجتماعية للمرأة، واستقلال القضاء، وأعلن عن إجراء تعديل دستوري شامل يستند على سبعة مرتكزات أساسية هي “التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية كرصيد لجميع المغاربة”، و”ترسيخ دولة الحق والمؤسسات وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية وضمان ممارستها وتعزيز منظومة حقوق الإنسان بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والثقافية والبيئية ولاسيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب”، و”الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري توطيدا لسموّ الدستور ولسيادة القانون، والمساواة أمامه”، بالإضافة إلى “توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها من خلال برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة، يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة مع توسيع مجال القانون وتخويله اختصاصات جديدة كفيلة بنهوضه بمهامه التمثيلية والتشريعية والرقابية، وحكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية المعبّر عنها من خلال صناديق الاقتراع وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب”.
وإلى جانب الإطار الدستوري الذي يتولى تأطير النموذج الديمقراطي الحداثي التنموي المغربي المتميز، ويشكل تعاقدا تاريخيا جديدا بين العرش والشعب.
◄ العشرية الأولى من فترة حكم محمد السادس كانت عنوانا للمصالحة الوطنية الشاملة مع مكونات المشهد السياسي والمجتمع، ومع التاريخ ومحطاته المفصلية، كما شهدت إرساء مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي
ولعل من أبرز الأحداث المفصلية للعشرية الثانية القرار الملكي الحكيم بعودة المملكة إلى عضوية الاتحاد الأفريقي بعد أكثر من 32 عاما من انسحابها منه في العام 1984 احتجاجا على قبول المنظمة عضوية “الجمهورية الصحراوية” الوهمية بدعم من الجزائر وبعض الدول المتحالفة معها تحت غطاء الحرب الباردة. قاد الملك محمد السادس هجوما دبلوماسيا كاسحا بخيارات سياسية وإستراتيجية نابعة من رؤية واضحة في التعامل مع ملف السيادة الوطنية ومع قناعة وطنية راسخة بعدم المساومة على وحدة التراب المغربي بما في ذلك الأقاليم الجنوبية.
عرفت العشرية الثانية كذلك، مراجعة جذرية للرؤية التي كانت معتمدة في تحديد جغرافيا العلاقات الدولية والتعامل مع الأوضاع الجيوسياسية التي فرضتها التحولات الكبرى على صعيد العالم بأسره، فقد أقرّ الملك محمد السادس سياسة دبلوماسية متقدمة في انسجامها مع حاجيات الدولة لخدمة أهدافها، وذلك عبر بناء علاقات الشراكة مع مختلف الدول وفي مختلف القارات سواء مع الشريك الإستراتيجي الاتحاد الأوروبي، أو مع القوى العظمى (الولايات المتحدة، الصين، روسيا)، والعمل على تحقيق توازنات في العلاقات مع الدول الصاعدة والتجمعات الدولية والإقليمية، بما أدّى إلى تحقيق اختراقات غير مسبوقة على مستوى تحقيق التعريف بالقضية الوطنية الأولى وبالتنسيق معها في مختلف القضايا والملفات المطروحة كمقاومة الإرهاب والتصدي لظاهرة الاتجار بالبشر والعمل على تحقيق السلام وخدمة القضايا العادلة.
ثالثا، بالنظر إلى النصف الأول من العشرية الثالثة، فإن جميع المؤشرات تؤكد على أن أهمية المكاسب التي تحققت، ومن أبرزها تكريس الوفاق الوطني وترسيخ مبدأ التضامن والتعاون والتكافل بين المغاربة، وتأكيد سيادة المغرب على صحرائه وتحقيق النهضة الشاملة لأقاليمه الجنوبية، وضمان اعتراف أغلب دول العالم بالحقوق السيادية المغربية غير القابلة للمساومة، وعزل الانفصاليين والواقفين وراءهم والدفع بهم إلى هامش القرار الإقليمي والقاري والدولي، وتحقيق المساواة بين المغاربة في ظل بناء ديمقراطي صلب يتجسد بالخصوص في حرية التعبير والتنظيم، والتعددية الحزبية والسياسية، وفي ضمان حقوق الإنسان، وكذلك في تطوير الاستثمارات وتنويع الاقتصاد ومواكبة التحولات العالمية الكبرى في مجالات العلم والمعرفة والطاقة والاتصالات والذكاء الاصطناعي ومواجهة التغير المناخي وغير ذلك، وتحويل المملكة إلى دولة صاعدة بمنجز متقدم وفق مؤشرات عالمية معترف بها، بالإضافة إلى تثبيت الدور المغربي إقليميا ودوليا وتكثيف حضور المملكة كبلد يشهد له العالم بنجاحاته السياسية والدبلوماسية والاقتصادية وبخصوصياته الثقافية والحضارية والروحية والجمالية التي يمتاز بها عن بقية الدول والبلدان، والتي تجعل منه وطنا للعقول النيرة والقلوب المحبة والنفوس الطاهرة والهمم العالية والمواقف الشجاعة والقرارات الحكيمة.