العمل الجمعوي بين النموذج الأمثل والواقع المعاش

فدوى البرنوصي

يعتبر العمل الجمعوي مكونا أساسيا من مكونات المجتمع المدني وميدانا لتحقيق الطموحات في التغيير الاجتماعي ، ومجالا لتعلم وممارسة الديمقراطية من خلال الانخراط في التعددية داخل المجتمع ومعايشة مجموعة من الفوارق الفكرية واللغوية والسيكولوجية والأيديولوجية والاحتكاك بها ، الأمر الذي يعلمنا قبول التعددية وقبول الآخر بكل خصوصياته ومواصفاته . وهو كذلك مجال لتحمل المسؤولية واكتساب التجربة والمبادئ في الحياة ، فيه يتخلص الأطفال والشباب من الحالات النفسية المرضية كالخجل والانطواء على الذات ، وبين أحضانه يتعلمون مجموعة من المهارات في الحياة وطرق الاندماج في المجتمع وحل المشاكل ومواجهة الصعوبات التي تعترض حياتهم .

من العمل الجمعوي نستخرج كلمة جمعية التي تعرف من الناحية القانونية بأنها اتفاق بين شخصين أو أكثر لخدمة أهداف معينة غير توزيع الأرباح ، والجمعية في عمقها هي مبادرة لسد فراغ ما والاهتمام بجانب معين همشته الدولة أو لم تطله مجهوداتها ، ومصطلح جمعية يوحي بوجود هموم ومشاكل جماعية ينبغي حلها وطموحات وأهداف جماعية ينبغي تحقيقها . ومن منظور آخر تعرف الجمعية بأنها أداة من أدوات الصراع الفكري والاجتماعي لأنها تتخذ من الإنسان محورا لها ومن الأفكار عملة للتداول .

إلا أن المتأمل في واقع العمل الجمعوي اليوم يدرك أنه يعيش انحرافات كثيرة عن تعريفه ومفهومه وعن وظائفه وخصوصياته . وإذا ما استثنينا قلة قليلة من المناضلين الجمعويين الحقيقيين الذين ينشطون في هذا المجال بكل نزاهة وتفان ونكران للذات ويعطون لهذا العمل أكثر مما يأخذون منه ، فإن البقية الباقية تعتبر العمل الجمعوي مجالا للارتزاق والغنى والثراء السريع ، وتتخذه مطية لتحقيق أهداف وطموحات شخصية على حساب المصلحة العامة وانتظارات الشباب والطفولة والمرأة المغربية وقضايا التنمية بكل أبعادها .

العمل الجمعوي يعاني من ظاهرة الاستنساخ والتفريخ الذي يراد به تمييع المشهد الجمعوي وخلط الحابل بالنابل والصالح بالطالح من أجل إفراغه من مضمونه وجوهره وأهدافه ومراميه النبيلة ، وبات تأسيس جمعية في بلادنا أسهل من إضرام النار في كومة تبن . فكم من جمعية تأسست بإيعاز من مسؤولين محسوبين على السلطات المحلية والإقليمية والمجالس المنتخبة لخدمة أهداف معينة قد يكون التضييق على جمعية أخرى جادة بتراب الجماعة من أجل محاصرتها وحرمانها من حقها المشروع في الدعم من المال العام أو اقتسامه معها في أحسن الأحوال أحد هذه الأهداف غير المعلنة . وكم من جمعية تأسست بدفع من مسؤولين بمؤسسات ومرافق حكومية لتعبيد الطريق نحو منحة أو غلاف مالي لمشروع تنشيطي أو تنموي يظل حبرا على ورق ولا يرى النور أبدا .

العمل الجمعوي يعيش أزمة مرتبطة بالأزمة التي يعرفها العمل السياسي ، ولذلك فلا غرابة أن نجد عددا لا يحصى من الجمعيات والمنظمات التي تشكل أذرعا وامتدادات ثقافية وتربوية وكشفية لهيئات سياسية تستغلها وتوظفها خلال حملاتها الانتخابية ومعاركها الكبرى قد دخلت في مرحلة السكون والركود والجمود وغرقت في سبات عميق في انتظار أن يطلب منها الاستيقاظ من النوم وفعل شيء ما من باب رفع العتب وتقديم شهادة البقاء على قيد الحياة للسكان والمواطنين ، أو القيام بنشاط ما تطبيلا وتهليلا لإنجاز حزبي ما . وعلى هذا الأساس مع كامل الأسف تقوم العلاقة بين المجالس المنتخبة في بلادنا وبين الجمعيات والمنظمات الشبابية، إذ على قدر المساندة والموالاة والتبعية لها يكون الدعم والتمويل لأنشطتها وطلباتها ورغباتها الخاصة والعامة.

وهذا أخطر مظهر من مظاهر انحرافات الحركة الجمعوية ببلادنا وهو الانتماء السياسي والخضوع للجاذبية الحزبية . فالجمعية باعتبارها كتلة داخل المجتمع والكتلة من الناحية الفيزيائية تخضع لقانون الجاذبية لذلك يفترض في أي جمعية أرادت الحفاظ على توازنها وبقائها ومصداقيتها وكيانها المستقل أن تقاوم كل أشكال الإغراء وأن لا تخضع لأي جاذبية سياسية كيفما كان نوعها تفاديا للسقوط والموت البطيء .

من مظاهر انحرافات الحركة الجمعوية كذلك تفشي روح التجارة والارتزاق في أوساط الجمعيات . وعلى الرغم من كون العمل الجمعوي عملا تطوعيا لخدمة الصالح العام ، فإن الناس عندنا مع الأسف حولوه إلى مجال للارتزاق وكسب القوت اليومي معتمدين على أساليب وممارسات بشعة هي أقرب إلى النصب والاحتيال منها إلى التنمية الحقيقية والتنشيط السوسيو- ثقافي .

ختاما وعلى ذكر المنح والميزانيات وأوجه صرفها ، لا يمكن المرور على هذه المسألة من دون الإشارة إلى صنف آخر من الجمعيات ذات المنفعة العامة وجمعيات ما يعرف بالسهول والهضاب والوديان ، ومن دون طرح سؤال عريض حول ماذا تقدم هذه الهيئات والكيانات الجمعوية للوطن وأبنائه غير تنظيم مهرجانات البذخ والرقص والسهر والفلكلور والحفلات الكبرى والملتقيات الدراسية النخبوية وغذاءات وعشاءات العمل والمناقشة ، وهي التي تلتهم من أجل ذلك من أموال دافعي الضرائب ميزانيات ضخمة كافية لتمويل ملايين الأنشطة الجادة والقريبة من الهموم اليومية والحقيقية للمواطنين تهم تربية وتوعية وتثقيف وتنشيط أبنائهم وتنقية وتنظيف وتزيين شوارعهم وأزقتهم وأحيائهم السكنية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: