الوزير الخالد أمام فوهة مدافع خطباء يرفضون أن يكونوا دمى!
أحداث غزة حرّكت الأشجان لدى عدد من خطباء الجمعة في المغرب، لكنها ـ على ما يبدو ـ خلقت حالة حرج غريبة لدى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، الذي استنفر «عيونه» في المساجد، من أجل ترصّد الأئمة الذين يمجّدون «طوفان الأقصى» المبارك، فأفلح في إسكات البعض، وفشل في مواجهة البعض الآخر من ذوي «الشكيمة»، القريبة من معنى «الكاريزما» عند الأعاجم.
ومن أجل حفظ ماء الوجه، أُوحِيَ لمعاليه بأن أفضل طريقة لتفادي حرج موضوع غزة وما شابهه من موضوعات «سياسية»، هي توحيد خطبة الجمعة في مساجد البلاد كلها. وأدرج القرار ضمن «خطّة» غلّفها بعنوان برّاق، هو «تسديد التبليغ من أجل حياة طيبة»، كما حدّد لها أهدافا ذات وقع رنّان: «تقليص الهوة الفاصلة بين فضائل الدين وبين كثير من أعمال الناس البعيدة عن تلك الفضائل»، و»تحقيق سعادة الناس الدنيوية وفلاحهم الأخروي» و»تفعيل منظومة القيم وأخلاق الدين في مجالات الحياة المختلفة».
ما معنى هذا الكلام؟ يتساءل الإعلامي أحمد فاخوري في برنامجه «شبكات» على فضائية «الجزيرة»؟ ليسارع بالإجابة تبديدًا لكل حيرة: «معناه أن الخطبة ستأتي مطبوعة، وستُقرَأ مُوحَّدة في جميع مساجد المغرب: نفس النص، نفس الموضوع، نفس الأفكار. لا تغيير»، وتابع بصيغة أقرب إلى السخرية: «ولا تحتاج (هذه الخطبة) إلى خطيب، ولا إلى إمام، بل تحتاج فقط إلى شخص يستطيع القراءة.»
بيد أن قرار الوزير أحمد التوفيق، الذي لم يكن مُوفّقًا مثل قرارات أخرى سابقة، قُوبل بالاستنكار الشديد من لدن العديد من الدعاة والأئمة، لدرجة أن خطيبا في مدينة طنجة جعل القرار نفسه موضوعًا لخطبة، عبّر فيها عن رفضه المطلق لهذا الإجراء، مؤكدا أن العديد من الخطباء هم أيضا لا يقبلون به. ومما جاء في خطبته التي سارت بذكرها مواقع التواصل الاجتماعي: «إذا بقيت الخطب تأتي إلينا فكأننا عبارة عن دمى ورسوم متحركة»، في حين أن الخطيب ـ في رأيه ـ بمثابة طبيب، ينبغي أن يعالج أمراض المجتمع»، فجاءه الرد سريعا من الوزارة الوصية بالعزل من منبر الخطابة. ومع ذلك، لم يخلد الرجل للصمت، إذ نشر «فيديو» على «اليوتيوب»، مما ردد فيه: «وقفت وقفة خطيب حر طليق، ولست عبدًا لأحد من البشر.»
أين روح الخطيب؟
الداعية عبد الله نهاري، بفصاحته التعبيرية المعهودة، وطريقته الانفعالية في الإلقاء، أدلى هو الآخر برأيه في هذه النازلة، إذ اعتبر أن ما أقدم عليه وزير الأوقاف يجعل الخطيب يتحول إلى مجرد قارئ، ومن ثم تصبح خطبة الجمعة مُتاحة لكل واحد يقرأ ما يُملَى عليه، «وفي ذلك ضرب لوظيفة شرعية عظيمة، وإهانة للخطيب». وفي اعتقاده، إن تحديد وتوحيد موضوع الخطبة في المغرب كلّه مسألة غير عملية ولا مُجدية، لأن لكل حيّ مشكلاته، والخطيب الذي يخطب في المسجد يعالج مشكلات الحي الذي يقع فيه ذلك المسجد، ومن المفروض في موضوع الخطبة أن يتطرق إلى الانحرافات العقدية والاجتماعية والسياسية والتربوية والاقتصادية والثقافية… وتساءل عبد الله نهاري: أين روح الخطيب حين يقرأ ما لا يكتب؟ ليؤكد أن «الخطبة قطعة تُقطع من كبد وقلب الخطيب، وهي تجسيد لشخصيته، إنها ليست كلمة، بل موقف يُعلّم به الخطيب الناس ويذكّرهم، ويرفع وعيهم، ويحشد طاقات الأمة في محاربة انحراف أو نشر خير.»
الداعية حسن الكتاني انضم، بدوره، إلى المعترضين على القرار الذي عَدّه نوعًا من «قتل لموهبة الإمام»؛ فمن المفروض في الإمام ـ وفق تأكيده ـ أن يكون عالما ومثقفا، يعرف كيف يخطب ويختار موضوعات خطبه، لا أن يقف أمام الناس ليقرأ خطبة مكتوبة ثم ينصرف. وقال أيضا في «فيديو» قصير مبثوث عبر منصات التواصل الاجتماعي: «إذا لم تمسس الخطبة مشكلات الناس، وإذا لم يكن الخطيب مؤهّلا لإلقاء الخطبة، ولا يتوفر على أسلوبه الخاص وعلى قدرته على مخاطبة الناس بحسب عقلياتهم ومشكلاتهم، فلن يكون جديرا بهذه المهمة.»
ومن أجل امتصاص نار الغضب التي أمست تنتشر متراوحة بين العالمين الواقعي والافتراضي، سارع «المجلس العلمي الأعلى»، باعتباره المؤسسة الدينية الرسمية، إلى إمساك العصا من الوسط، محاوِلاً الحفاظ على ماء وجه وزير الأوقاف من جهة حتى لا يظهر بمظهر المنهزم في هذا المعركة، ومن جهة أخرى عدم التسبب في أزمة مع الخطباء الغاضبين، فأصدر المجلس المذكور بيانا أفاد فيه أنه «سيقترح على الخطباء، خطبة الجمعة الموالية كل يوم أربعاء في الساعة الثانية بعد الزوال لمن أراد اعتمادها، وذلك على موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وعلى صفحاتها الاجتماعية وكذا على صفحات المجالس العلمية الجهوية والمحلية.»
وهكذا، تحوّلت المسألة من الإجبار إلى الاختيار؛ فصارت خطب الجمعة جاهزة أمام الخطباء ممّن يعملون بشعار «كم حاجة قضيناها بتركها»، أو ممّن تعتريهم حالة فتور في الكتابة وعدم القدرة على الارتجال. وليتحمّل الأئمة الباقون مسؤولية كلامهم الذين يُلقونه أمام المصلّين، وبينهم عيون وآذان لا تفوّت صغيرة ولا كبيرة إلا وحملتها طازجة إلى مكاتب معالي الوزير الخالد في كرسيه منذ 22 سنة!
لغط تلفزيوني
قريبًا من قضايا الدين وشؤون العلماء، لوحظ أن التلفزيون المغربي دأب خلال الأيام الماضية على تخصيص فقرة في نشراته الإخبارية لمناقشة موضوع إصلاح مدونة (قانون) الأسرة، في ضوء التوجيهات التي أعطاها العاهل محمد السادس إلى «المجلس العلمي الأعلى»، باعتباره المؤسسة الدينية الرسمية المختصة في الإفتاء الديني، من أجل النظر في الاقتراحات والتعديلات ذات المرجعية الإسلامية. وجاءت هذه الخطوة بعدما استقبلت اللجنة المكلفة بإصلاح قانون الأسرة، على امتداد شهور، العشرات من المؤسسات والأحزاب والمنظمات الأهلية التي قدّمت اقتراحاتها في الموضوع ذاته.
إلى حد الآن الأمور مفهومة والإجراء واضح، لكن ما ليس مفهوما هو أن تتحول نشرات الأخبار إلى نقاش يومي عبر التلفزيون، لباحثين في السياسة والفكر يدلون بدلوهم في موضوع انتهى به المطاف إلى ذوي الاختصاص من أجل الحسم فيه. فما الهدف من وراء ذلك النقاش التلفزيوني؟ أهو محاولة للتأثير في العلماء الأجلاء، خاصة وأن بين أيديهم قضايا شائكة، من قبيل قسمة الإرث، وجواز القاصرات، وتعدد الزواج بالنسبة للرجال؟ وما جدوى كل ذلك اللغط، بعدما حددت توجيهات الملك ضوابط مسبقة للتعديلات المنتظرة، وتتمثل في القاعدة الشرعية الذهبية «عدم تحليل الحرام وعدم تحريم الحلال»؟