موازين» مهرجان لا كباقي المهرجانات، إذ تتبناه الأجهزة المتحكمة في صنع القرار، وترصد له الإمكانات الضخمة، لكونه يشكل واجهة أساسية لتمرير خطابات رسمية وتشكيل صورة ما عن المغرب، ومحاولة التأثير على المتلقين، لا سيما الأجيال الشابة. وفي هذا السياق، يحاول الإعلام الرسمي، هذه الأيام، جاهدا مضاعفة مواكبته لهذا المهرجان الغنائي الذي تشهده العاصمة المغربية، سواء من خلال نقل السهرات الفنية على الهواء بشكل يومي، أو من خلال التغطيات الإخبارية والحوارات الفنية. والهدف من وراء ذلك الإيحاء بعدم وجود أي تأثير للأحداث الدامية الجارية في غزة على مواكبة المغاربة لهذا المهرجان الدولي الذي يستقطب مطربين عربا وغربيين.
صحيح أن ثمة حشودا من الجماهير قرب منصات السهرات الأساسية في حي «النهضة» وحي «السويسي» بالخصوص، مثلما يتبين من كاميرات التلفزيون، ولكن هذا لا يمنع من ملاحظة أن العدوان الإسرائيلي على الأهالي الفلسطينيين في غزة خلق نقاشا لدى المواطنين المغاربة، وأفرز حالة وعي كبيرة حتى لدى فئة الشباب.
وإذا كان السجال اتخذ لدى الكثيرين مواقف وآراء في شبكات التواصل الاجتماعي، فإنه على المستوى الميداني تشهد العديد من المدن المغربية «مهرجانا حقيقيا» شعاره الأوحد: «كلنا فلسطينيون، ولا للتطبيع مع الكيان الصهيوني». وعلى الرغم من تجاهله التام من لدن الإعلام الرسمي، فهو يستقطب أعدادا غفيرة من فئات الشعب.
واللافت للانتباه أن نشرة الأخبار في التلفزيون الرسمي أرفقت هذا الأسبوع تقاريرها بعنوان بارز على الشاشة: «المغرب فلسطين: التضامن»، إلا أنها اقتصرت فقط على المساعدة الطبية العاجلة التي أرسلها المغرب إلى غزة، وأصرّت على تجاهل التضامن الشعبي اليومي. وماذا كان يضير التلفزيون المغربي لو أنه بثّ تقريرا عن هذا الحراك السلمي والحضاري الذي يجسد قوة ارتباط المغاربة بفلسطين؟ أم إنه سيقلق الكيان الصهيوني الذي تُرفع في وجهه عبارات الإدانة، وبسببه تُطالَب السلطات المغربية بإنهاء التطبيع المشؤوم معه؟
«الاستثناء المغربي»
في الضفة الأخرى من الكرة الأرضية، اختارت قناة «الحوار» التي تبث انطلاقا من عاصمة الضباب لندن، أن تخصص إحدى حلقات برنامجها «محطات مغاربية»، لموضوع مدى تأثير الأحداث الجارية في غزة على الدورة الحالية من مهرجان «موازين».
رشيد فلولي، منسق «المبادرة المغربية للدعم والنصرة»، تحدّث بحكمة وعمق، إذ زاوج كلامه بين الماضي والحاضر، فهو من جهة ذكّر بالوجود المغربي في فلسطين منذ أكثر من ألف سنة، مشيرا إلى أن أسلاف المغاربة جاهدوا مع صلاح الدين الأيوبي، وقبله مع نور الدين زنكي في تحرير القدس. وأشار أيضا إلى أن الشعب المغربي ما فتئ طيلة مساره التاريخي يعتبر القضية الفلسطينية قضيته الوطنية، إلى جانب قضية الصحراء المغربية.
ومن جهة ثانية، استحضر تفاعل المغاربة الحالي مع مستجدات الأحداث في غزة، لدرجة أن المدن المغربية شهدت أكثر من 4000 وقفة ومسيرة شعبية منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى». وفي كل يوم جمعة يخرج سكان أكثر من 50 مدينة تضامنا مع الشعب الفلسطيني ومساندة للمقاومة، رغم السياسة الرسمية التي تكرّس التطبيع المشؤوم.
وما كان لهذه التظاهرات أن تشهد كل ذلك التوهج والألق لولا قوة المجتمع المدني وديناميته وكفاءته التنظيمية، ما يجعل الوقفات والمسيرات تمر في أجواء راقية مضبوطة، ولا يحصل فيها أي انفلات أو شرود يعكر صفاءها وسمو شعاراتها.
إنه «الاستثناء المغربي» الذي يحيّر الكثير من المراقبين: رسميا، تطبيع سياسي واقتصادي وسياحي وأكاديمي ورياضي وثقافي مع الكيان الصهيوني، وشعبيا مساندة للمقاومة المشروعة. ويبقى غليان الشوارع الذي تقابله السلطات بالحياد وبدون أي تدخل أمني غالبا، تجسيدا لهذا «الاستثناء» الذي يندر أن يوجد له مثال في باقي البلدان العربية، حيث يحول حكّامها دون خروج الشعوب للتعبير عن الحد الأدنى من التضامن مع غزة في وجه حرب الإبادة الإسرائيلية.
قنوات «البوز»
بالصدفة، وقعت عينا عبد ربه على سهرة مبثوثة مباشرة عبر التلفزيون المغربي، كانت فيها مطربة من الدرجة العاشرة بعد الألف، منتمية إلى عصر «التيك توك»، تردد أغنيات قديمة لفنانين من رواد الفن الغنائي في المغرب.
ويبدو أن تلك «المطربة» لا تملك من موهبة سوى اختيار لباس السهرة، بدليل ضعف أدائها لتلك الأغاني التي طالما أطربت أجيالا من الجمهور المغربي. ولعلها كانت تدرك أن رصيدها الغنائي فارغ أو لا يستطيع جذب المشاهدين، ومن ثم استنجدت برصيد الروائع الخالدات… فهل من أجل ذلك استدعيت الفنانة المغمورة، وخصصت لها مكافأة مجزية، وأقيمت من أجلها المنصة بكل تجهيزاتها الصوتية والضوئية، وأرسلت الطواقم التلفزيونية؟
والشيء بالشيء يذكر، استرعى انتباه بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي كثرة الميكروفونات التي وضعت أمام إحدى المطربات خلال مؤتمر صحافي في إطار سهرات «موازين»، وأخذوا يتهكمون مفترضين نوعية الأسئلة التي قد يطرحها الباحثون عن تحقيق أعلى نسب المشاهدة والتصفح، من قبيل طبيعة الماكياج الذي تفضله، ونوعية التسريحة التي ستظهر بها أمام جمهورها، وسبب انفصالها عن زوجها السابق، والريجيم (الحمية) المتبع من لدنها، والمظهر الجديد الذي اختارته بعد نفخ الخدين والشفاه وهلم جرا…
ومن المخجل حقا ألا تجد تلك الميكروفونات بتلك الغزارة أمام مفكر مغربي من طراز عبد الله العروي ـ مثلا ـ أو أمام العالم والمهندس المغربي رشيد اليزمي مخترع تقنية لشحن البطاريات، أو أسماء بوجيبار أول مغربية وعربية وإفريقية تلتحق بوكالة «ناسا» للفضاء.
ويبدو أن المواقع الإلكترونية التي تتهافت على «المشاهير» لا تعرف مثل هذه الأسماء، وحتى إذا عرفتها فإنها تتجاهلها مقتنعة بأنها لن تحقق لها ما تسميه بـ»البوز» المطلوب الذي يتيح تدفق الأموال وجلب المعلنين.
مطربة تتنكر لتصريحاتها السابقة
«يكاد المريب يقول خذوني»، ذلك ما وقع للمطربة المغربية لطيفة رأفت، ففي مؤتمر صحافي أقيم على هامش سهرتها في «موازين»، قالت إنها لم تكن يوما مقاطعة لهذا المهرجان». ونفت أن تكون لمواقفها بشأن قضايا سياسية ومجتمعية في المغرب علاقة بعدم مشاركتها في دورات سابقة لمهرجان «موازين». أما في شأن غيابها عن هذا المهرجان منذ 2017، فقالت «عكس ما يعتقد البعض، لم أكن يوما مقاطعة لمهرجان موازين، كل ما في الأمر، أنه بعد مشاركتي في 2017، حملت بابنتي ألماس، وبعدها جاءت كورونا، وها أنا اليوم أشارك في مهرجان بلادي». لكن أحد المواقع المحلية ذكّر بما نُُقل عنها سنة 2018، وما زال كلام لطيفة رأفت مسجلا بالصوت والصورة على اليوتيوب، عندما أعلنت مقاطعتها لمهرجان «موازين» لأن أمواله تذهب إلى خارج المغرب، حسب تعبيرها. لكنها في 2024، قالت إنها ضد مقاطعة موازين، ومبررها في ذلك «لا يمكنني أن أعارض قرارات الدولة ومؤسساتها التي تعرف مصلحة البلاد»… انتهى الكلام.