حراك انفصاليي القبائل وصمت الدبلوماسية الجزائرية
بينما تُسخِّر الدبلوماسية الجزائرية الكثير من وقتها وجهدها ومواردها للمعضلة الفلسطينية وغزة وموضوع الصحراء المغربية، يتجوّل انفصاليو منطقة القبائل في العواصم الغربية لإسماع صوتهم وبحثا عن التعاطف والدعم الدوليَين. وقد حققوا شيئا مما أرادوا.
الأخبار المتواترة عن نشاط «حركة استقلال القبائل» (ماك) تعطي الانطباع بوجود خطة للتصعيد الدبلوماسي والسياسي. كما توحي تحركات قائد الحركة، فرحات مهنى، بمزاج دولي وإقليمي إيجابي تجاههم.
آخر التقارير أفادت أن مسؤولين سابقين كبارا في مؤسسات القرار والتشريع ببريطانيا استقبلوا مهنى بالترحاب في لندن. وقبل ذلك بنحو شهرين صال مهنى وجال في نيويورك والتقى وفودا دولية غير رسمية لشرح «قضيته» وطلب الدعم والتضامن. وتواصل عن بُعد مع مشرّعين أمريكيين في واشنطن.
في نيويورك، عندما كان مهنى يلتقي الوفود، كان نحو 500 (وفق تقديرات إعلامية أمريكية) من أنصاره ينظمون مظاهرة لجلب انتباه العالم إلى «قضيتهم». تزامنت التظاهرة مع اعتصامات طلاب جامعة كولومبيا العريقة احتجاجا على حرب غزة. ورغم خطورتها وقوة زخمها، لم تُغَـطِّ اعتصامات كولومبيا على تظاهرة انفصاليي القبائل، بدليل أن صحيفة «وول ستريت جورنال» القوية والواسعة الانتشار، أوجدت على صفحاتها مساحة لافتة لتقرير في صالحهم شكلا ومضمونا.
وفي لندن حظي مهنى باستقبال وجوه بارزة في الشأن العام، منها رئيس مجموعة أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين الحاكم، اللورد ستيورت بولاك، واللورد إيدي أودني لستر، مدير موظفي مكتب رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون، ومارك فولبروك مدير مكتب خليفة جونسون في رئاسة الحكومة، ليز ترس.
بعد اللقاء قال بولاك إنه منبهر بنضال مهنى «من أجل حماية هوية شعبه» ووعد بأنه سيعمل على جعل صوت الحركة «مسموعا من الآن فصاعدا» في بريطانيا. وقال أودني لستر إنه قلق من «التغييب الذي يعانيه نضال القبائل» و«خجول» من جهله بنضالهم. بينما قال فولبروك إن «قصة كفاح القبائل مذهلة وعلى كل من يؤمن بحقوق الشعوب المقهورة في العالم أن يتعرف عليها».
بهذه الوتيرة سنسمع قريبا عن استضافة مهنى ورفاقه في مؤسسات الاتحاد الأوروبي ببروكسل وفي البرلمان الأوروبي، وربما عن استقبال رسمي أو نصف رسمي في عواصم أوروبية أخرى.
تستطيع السلطة الجزائرية منع وسائل إعلامها من الخوض في موضوع انفصاليي القبائل، كما تفعل حاليا. لكن ذلك لن يلغي المشكلة ولن يحلها
مهنى رجل حقود على كل ما هو عربي ومسلم، علاوة على أنه، إلى وقت قريب، كان من الذين يؤمنون بأن العالم هو فرنسا. لهذا من المؤكد أن وراء نشاطه الأخير جهات نافذة وشركات علاقات عامة فتحت عينيه على الدنيا، فأثمرت جهودها جولاته في نيويورك ولندن، واعتذاره (في فيديو مسجل) من العرب على كرهه السابق لهم وتطاوله عليهم. وأثمرت جهود هذه الجهات أيضا اهتماما إعلاميا بمهنى بلغ درجة النشر عن «قضيته» في صحيفة «وول ستريت جورنال» لسان حال اليمين المحافظ في الولايات المتحدة وكل الغرب.
العديد من التقارير ذكرت، دون أن تُفنَّد، أن وراء «حراك» مهنى تقف لوبيات يهودية وإسرائيلية ثم الإمارات بدرجة أقل.
لكن لماذا تصمت السلطات الجزائرية على استضافة فرحات مهنى في نيويورك ولندن؟ الانشغال بملفات أهم مثل غزة والصحراء المغربية و«قضايا التحرر في العالم» لا يبدو تفسيرا مقنعا. يجب البحث عن أسباب أهم، منها صعوبة الاهتداء إلى طريقة حاسمة وناجعة للتصدي لهذا الصداع. فالدبلوماسية الجزائرية لا تمتلك حاليا قوة وترف فتح جبهة مع دول كبرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة. كما أن فتح جبهة مع دولة عظمى في هذه الظروف الدولية المعقّدة ليس تصرفا حكيما. العامل الآخر يكمن في أن الدبوماسية الجزائرية لم تُنَـمِّ لديها أوراق الترغيب والترهيب كما فعلت دول أخرى (تركيا وإيران والبرازيل وبدرجة أقل المغرب عندما أطلق آلاف المهاجرين الأفارقة لاقتحام السياج الحدودي مع إسبانيا في صيف 2021 فانتزع منها ما أراد).
وإلى جانب ذلك كله، صداع انفصاليي القبائل على نقيض تام مع استثمار الدبلوماسية الجزائرية في الشؤون الأخرى: القضية الفلسطينية وغيرها مما يسمى دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها تضع الدبلوماسية الجزائرية في الواجهة بشكل يعجب السلطة الجزائرية ويرضي غرورها. بينما يضعها صداع مهنى وجماعته في الواجهة بشكل يزعج هذه السلطة وتكرهه.
عمليا، عندما تكون هذه الدبلوماسية في حالة هجوم في دفاعها عن القضية الفلسطينية، فذلك يجلب لها الإعجاب والحظوة في هذه الظروف التي فرضت على العالم كله التعاطف مع غزة. أما إذا كانت في حالة دفاع في تصدِّيها للانفصاليين القبائل فذلك يضعها تحت أضواء سلبية ويطرح من حولها تساؤلات وشكوكا.
تستطيع السلطة الجزائرية منع وسائل إعلامها من الخوض في موضوع انفصاليي القبائل، كما تفعل حاليا. لكن ذلك لن يلغي المشكلة ولن يحلها. ومن السهل عليها الاختباء وراء كلام من قبيل أن مهنى ظاهرة عابرة لا مستقبل لها. وفي هذا الكلام شيء من الصحة، لكن الأمر يتطلب العمل للتعجيل باحتواء «الظاهرة الصوتية» قبل أن تتحول الى ورقة ضغط وابتزاز ومصدر إزعاج.
لا تبدو الظروف الدولية والإقليمية في صالح الدبلوماسية الجزائرية في هذا الصداع، لكن هذا الوجه الأول من القطعة. الوجه الآخر أن الغرب مأزوم اقتصاديا واجتماعيا وغارق في مشاكله الداخلية والدولية. لم يعد قوة ضاربة موحدة. تخلّى عن قيَمه ومبادئه. المزعومة. أقوى الحكومات الأوروبية قابلة للشراء بثمن بخس وبصفقات عسكرية ونفطية حقيرة. هناك دول كثيرة، عربية وغير عربية، أدركت هذا الأمر وتستغله في ليّ ذراع حكومات غربية قوية.
هذه الظروف الدولية والإقليمية ذاتها تجعل جهود مهنى بلا مستقبل لأن «قضيته» منخورة من الداخل بأكثر من طريقة: منبوذة شعبيا في منطقة القبائل ومكروهة في الجزائر عموما. تختزل القبائل في منطقتي تيزي وزو وبجاية وتقصي الباقي بينما ثلاثة أرباع الجزائر أمازيغ. لا دعم لها حتى بين رموز منطقة تيزي وزو وبجاية (سعيد سعدي، حليف مهنى في بداية النضال في ثمانينيات القرن الماضي انتقده بشدة واتهمه بالانبطاح للمغرب وإسرائيل). المنطقة لا تتحمل دولة أخرى غالبا ستكون فاشلة وقابلة للتدمير الذاتي. وضعت نفسها تحت تصرف المغرب الذي لديه انفصاليون بين أمازيغييه ولا يعاملهم بأفضل مما تُعامل الجزائر انفصالييها.
لم يفت الوقت لتعمل الدبلوماسية الجزائرية بذكاء على هذه الأوراق. لكنها حتى الآن لا تفعل وتفضل الصمت والإنكار.